د. رجب بن علي العويسي
يأتي تناولنا للموضوع في ظل ما تفرضه المؤشرات الاجتماعية الوطنية في تشعبها واتساعها وعمقها وتعدد الملفات التي تتعاطى معها، من الحاجة إلى تبني إطار وطني تؤسسه المراصد والمراكز البحثية المتخصصة في التعاطي الواعي مع نواتج هذه المؤشرات، سواء عبر تفعيل دور هذه المراكز، وتوسيع دائرة الاختصاصات والصلاحيات لديها، وما تتطلبه من تقوية الممكنات الفكرية والنفسية والأدائية والتحفيزية والرقابية والأمنية والإيجابية للمواطن الذي يتعامل مع هذه الظواهر والقضايا المجتمعية، والحد من الممارسات السلبية التي باتت تشكل اليوم مصدر قلق وطني على منظومة الأمن والاستقرار والسلم المجتمعي.
لقد أفصح الواقع الاجتماعي عن وجود تكوينات لهذه المنصات الاجتماعية، تمثلت في المؤسسات البحثية والتعليمية والتنظيمية التي تأسست في فترات متعاقبة كنتاج للحس والشعور الوطني بما يمكن أن تقدمه في هذا المسار، فالمرصد الاجتماعي التابع لمجلس البحث العلمي، ومراكز البحوث الاجتماعية والإنسانية بجامعة السلطان قابوس، وتلك الموجودة في الجامعات والكليات الخاصة، أو بما تمثله من لجان بحثية على مستوى وزارة التنمية الاجتماعية، وبعض مؤسسات القطاع الخاص، وما يقوم به المركز الوطني للإحصاء والمعلومات من مسوحات واستطلاعات رأي حول بعض القضايا الاجتماعية وغيرها؛ تشكل نواة مهمة في تكوين هذه المنظومة، وبناء محددات عملها وترسيخ مسارات قادمة لتخطو خطوات أوسع في مسار التفعيل، في ظل ما تحمله هذه المرحلة من تحولات اقتصادية عالمية ووطنية انعكست على المسار الاجتماعي، وما تطرحه المؤشرات الاجتماعية الوطنية من تساؤلات ونقاشات، حول الدور النوعي المطلوب أن تؤديه هذه المراصد والمراكز في تشخيص الواقع الاجتماعي وقراءة توجهاته القادمة، وبالتالي يصبح البحث فيها أولوية وطنية لتوسيع فرص الاستفادة منها، أو لتبني الحلول والبدائل المناسبة للتقليل من تأثير هذه الظواهر على الاسرة والمجتمع.
ومع تشعب هذا المجال وتعدد الملفات التي يتناولها واستمرارية التحولات التي يفرزها الواقع الاقتصادي والسياسي العالمي وانعكاساتها على البعد الاجتماعي بكل تفاصيله، فإن المسألة الاجتماعية ستظل بحاجة إلى سياسات مستديمة وأطر مقننة تعمل على قراءتها، وفهم المتغيرات الناتجة عنها، والتي تشير الحالة العمانية إلى تعدد الملفات والأطروحات والمسارات التي باتت تشكل هاجسا وطنيا يستدعي أن تقوم هذه المراصد بمسؤولياتها في رصدها وقراءة أبعادها الاجتماعية وآثارها النفسية والأمنية والأخلاقية وغيرها، فالإحصائيات تشير إلى زيادة الايدي الوافدة (42%)، في مقابل اعداد السكان، وزيادة أعداد الباحثين عن عمل بين العمانيين من الجنسين وبشكل خاص من مخرجات التعليم الجامعي، والرقم الضئيل الذي تشكله القوى العاملة الوطنية في سوق العمل حيث لا يتجاوز (13%) مقابل (87%) من الايدي الوافدة، وقضايا الجريمة التي شكلت نسبتها بين المواطنين (48%) مقابل (52%) لغيرها، وتزايد حالات الطلاق، يقابلها نقص في حالات الزواج، وقضايا الاجرام التي تتسبب فيها الايدي الوافدة، وانتشار ظاهرة القتل العمد في الفترة الأخيرة حتى وصلت بحسب احصائيات رسمية كشفت عنها جريدة الشبيبة في عددها بتاريخ 8/8/2019م، حيث بلغت (17) شخصا على الأقل خلال 6 اشهر فقط في الفترة من فبراير وحتى يوليو 2019، منهم (12) مواطنا، وأن (5) أطفال مواطنين راحوا ضحية جريمتي قتل وقعتا في بدية وبهلا خلال الفترة المشار إليها، وسجلت الأشهر الثلاثة (مايو ويونيو ويوليو) (5) جرائم قتل راح ضحيتها (12) شخصا.
ومع التأكيد على أن تناول مؤشرات الواقع الاجتماعي لا يقتصر على هذه الملفات فحسب؛ بل يشمل ملفات أخرى يجب أن تقرأ في خط متوازن مع نتائج هذه المؤشرات المقلقة، والتي يمكن الإشارة إلى بعضها في قضايا الهوية والقيم والمواطنة والعلاقات الاجتماعية والاسرية، وقضايا الاستهلاك اليومي والتسول والتشغيل، والوظائف، وسوق العمل الوطني، والقطاع الخاص، والشباب وقضاياه المختلفة، والعمل التطوعي والمسؤولية الاجتماعية، وتتعدى لقضايا أخرى ترتبط بسلوك المواطن الاقتصادي وتأمين الحياة الكريمة والعيش السعيد له، والتي يشكل ملف الضمان الاجتماعي وأهمية البحث عن ضمانات لخروج الفئات القادرة على العمل والإنتاج من مظلة الضمان في ظل التحديات المالية التي تواجه الحكومة في زيادة المصروفات المالية في هذا القطاع وغيرها من القضايا التي باتت تشكل خيوطا مهمة في الحد من تأثير المؤشرات السلبية؛ وبالتالي أخذت هذه المؤشرات والقضايا والظواهر الاجتماعية، تشكل تحديا وطنيا وهاجسا يجب البحث عن حيثياته وتسليط الضوء على واقعه، واستقراء نتائجه على الأمن والاستقرار المجتمعي.
وهنا يأتي دور هذه المراصد والمراكز البحثية الاجتماعية في التعامل مع الواقع الاجتماعي، بطريقة أكثر احترافية ومهنية عبر نقلها من دائرة تنفيذ الدراسات والبحوث الوقتية، إلى كونها مؤسسات استراتيجية ترفد المؤسسات المعنية ومتخذي القرار بالنتائج التنفيذية لها في الواقع، وصناعة تحول في سلوك هذه المراصد الاجتماعية ومراكز البحوث المتعلقة بالقطاع الاجتماعي في تبني سياسات بحثية وتدريبية وتصحيحية وتوعوية وتسويقية في تشخيص هذه المشكلات ودراسة الأسباب والمسببات والوقوف على حجم التأثير الناتج عنها على الفرد والمجتمع وعلى منظومة الأمن والاستقرار والسلام الداخلي الوطني، بحيث لا تقف المسألة في دور هذه المراصد والمراكز البحثية على مجرد تأطير المشكلة ورصد واقعها وتشخيص المتغيرات وقراءة ما بين السطور؛ بل التعمق في فهم الواقع والوقوف على حيثيات الممارسة، وتتبع نتائج الفعل، وقراءة جملة العلاقات والمسببات والتفاعلات والأحداث والمتغيرات التي باتت تشكل تحديا وتهديدا مجتمعيا، وعرض نتائج ما تقدمه على المجتمع بشكل أكثر احترافية لضمان مشاركته في الحد منها، وزيادة مستوى يقظته وجاهزيته في التعامل مع المستجدات، بمعنى أن هذا الدور لا يقتصر على جانب البحوث وسرد النظريات وتحليل البيانات أو أن يتم بمعزل عن استقراء الواقع الاجتماعي برمته والدخول في حوارات مع المواطن نفسه، وتبني مناهج بحثية قادرة على سبر أعماق الحقيقة وبلوغ الصدق والموضوعية في تقريب صورة الظاهرة الاجتماعية، والدخول بعمق في فهم ما يحيط بهذا السلوك من علاقات اجتماعية وتأثيرات داخلية وخارجية ودور المواطن فيها، والخلفية الثقافية والفكرية للأيدي الوافدة، بالإضافة إلى تبني استراتيجيات عمل وطنية في التقليل من تزايد هذه المؤشرات، وابتكار برامج وأدوات ومبادرات وقرارات وطنية استراتيجية تعمل على الحد من انتشار هذه الطواهر، وتوفر بيانات وتحليلات مرجعية للواقع من شأنها أن تتيح للمشرع ومتخذي القرار وراسمي السياسات الاجتماعية الوطنية والقائمين على القطاعات الاجتماعية وتصنيفاتها بالمؤسسات، بالشكل الذي يضمن استفادة القرار الوطني منها، وقدرتها على بناء موجهات عملية تؤسس لمرحلة متقدمة من العمل الوطني المشترك، يظهر في حجم البدائل والمعالجات المتنوعة والفرص المتجددة التي تنتجها، والمبادرات التي تستشرف تقديم حلول وبدائل ومعالجات دقيقة في التعامل مع معطيات الواقع الاجتماعي، ويستمر دور هذه المراصد والمراكز البحثية الاجتماعية في توضيح الصوة العامة للمواطن، والمعالجات والتشريعات والقوانين التي تحتاجها.
إن التأكيد على دور محوري لهذه المراصد والمراكز البحثية يستدعي اليوم امتلاكها الممكنات والفرص والبدائل والأدوات والاليات والموجهات التي تضمن قدرتها على تشخيص الحالة العمانية والوقوف على الممارسة والدخول في المجتمع وفهم ما يدور فيه من معطيات، وقدرتها على الاستفادة من قواعد البيانات ونتائج التقارير الرسمية لشرطة عمان السلطانية والمركز الوطني للإحصاء والمعلومات ووزارة التنمية الاجتماعية والمحاكم والادعاء العام وغيرها من الجهات الأخرى ذات العلاقة، كما تمتلك قراءات دقيقة لتشخيص نتائج هذه المؤشرات بحسب ما تبرزه نتائج المحاكمات والمرافعات القضائية في المحاكم والادعاء العام، وتمتلك أدوات استقراء معتمدة في الحصول على بيانات دقيقة تتسم بالسرية حول القضايا الاجرامية والانتهاك السلبية المترتبة عليها وقراءة تأثيرها على حياة الفرد والمجتمع، وفي الوقت نفسه توفر البيانات والمعلومات المتجددة وتقارير الأداء في القطاع الاجتماعي والباحثين عن عمل والتشغيل وطبيعة الجهود الوطنية المبذولة في هذا الشأن رصيدا مهما يمكن أن يستثمر لصالح الدفع بنتائجها في الوصول إلى قوة في أدوات العمل والتقييمات والتشخيصات والمقترحات التنفيذية والتوصيات الناتجة عن هذه الدراسات العلمية الاجتماعية، والاستفادة بشكل أكبر من ذوي الخبرة والاختصاص والمهتمين بالشأن الاجتماعي وعبر مشاركاتهم الاستطلاعية ولقاءاتهم الحوارية واجابتهم عن المقاييس البحثية والاستبيانات واشراكهم بشكل مباشر في رصد حيثيات الواقع والاستفادة من كل المحطات الاجتماعية في هذا الشأن.
إن قدرة هذه المراصد على اثبات جدارتها في أداء وقياس التحولات الحاصلة في المؤشرات الاجتماعية واستفادتها من الرصيد الاجتماعي الوطني، وتبني سياسات وطنية ونماذج عمل قادرة على توليد بدائل نوعية ومعالجات واضحة لهذه المؤشرات بحسب طبيعتها وتصنيفها في سلم التوقعات، وايصال صوتها إلى متخذي القرار الوطني، وإيجاد تشريعات تضمن الحد من مخاطرها، وتبني استراتيجيات عمل تقييمية مستدامة لمستوى التحول والتأثير الناتج عنها، والوصول إلى دور اعمق لهذه المنصات الحوارية والتفاعلية والتشخيصية في تقديم قراءة اعمق للواقع الاجتماعي؛ يتطلب تكامل الجهود وتفاعلها وإيجاد اطار عمل مقنن تعمل عليه في سبيل الوصول الى نواتج واضحة في التعامل مع هذه المؤشرات وفي الوقت نفسه انتاج واقع جديد يتلاءم مع التحولات الاقتصادية والتنموية والاجتماعية بحيث يعكس توجهات السلطنة في انضمامها للاتفاقيات الاطارية والبروتوكولات المتعلقة بالجريمة والامن وحقوق الانسان، والمعاهدات الدولية حول المرأة والطفل، وان تطرح في اجندة عملها قضايا الساعة خاصة تلك المتعلقة بالهوية والمواطنة والقيم والاخلاقيات والسلوك الاجتماعي والذوق العام، وتوجيه الراي العام حول قضايا الاستهلاك والتعامل مع التقنية وتأثيرها على الكيان الاجتماعي والروابط الابوية ودور الوالدية، ودور منصات التواصل الاجتماعي في الواقع الاجتماعي، والثورة الصناعية الرابعة والقيم والاخلاقيات والامزجة والوظائف وسوق العمل، وغيرها من القضايا التي باتت بحاجة الى المزيد من التأطير والقراءة المعمقة لها من قبل هذه المنصات، لذلك كان من المهم أن تمتلك هذه المنصات الممكنات البحثية والادائية والتسويقية والتطويرية وغيرها بما يتيح لها فاعلية الدور في التعامل مع هذه المعطيات، والمهنية في رسم ملامح التغيير لصالح البناء الاجتماعي.
وتبقى عملية التجديد في الأدوات والتنويع في استراتيجيات المعالجة والتصحيح والمراجعة والتشخيص والبحث والتأطير، بشكل يتناغم مع طبيعة هذه الاجندة، ويتفاعل مع حيثيات ومستجدات الواقع الاجتماعي، والوعي والمعرفة بالتشريعات والأنظمة والتوجهات الوطنية الساعية لتعزيز إيجابية التحولات في ثقافة الاسرة والسلوك الاجتماعي، بحيث تتكون لدى المواطن المنفذ لهذه الأدوات ثقافة إيجابية وقناعة راسخه حول القيمة المضافة التي يشكلها وجود هذه المراصد والمراكز في واقعنا الاجتماعي، وأن تتبنى الدولة مبدأ التوسع والشمولية والعمق ومنح هذه المؤسسات الصلاحيات والتمكين والقوة لممارسة دورها وكفاءة أدائها، فترسم بذلك اطار عمل مجتمعي واضح وتشخص الحالة الوطنية بشكل نوعي ومستمر، فنقدم بدائل منتجة وحلول واقعية ومسارات اكبر من الاريحية، وحلول لمؤسسات الدولة والقرار الوطني في الحد من تأثير المؤشرات السلبية لهذه الظواهر الاجتماعية ورفع مستوى الجاهزية النفسية والفكرية والادائية للمواطن في التعامل معها والاستجابة لمتطلباتها.
على أن عملية ترتيب الأولويات والقضايا البحثية التي تتناولها هذه المراصد والمراكز في أجندة عملها؛ تتطلب أن تعمل وفق رؤية وطنية، مستمدة من حجم معطيات الواقع والطموح المجتمعي، وأن يصحب هذه المراصد والمراكز برامج إعلامية متخصصة في مختلف القنوات الإعلامية ( الاذاعية والتلفزيونية والصحف، والاعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي والصفحات الالكترونية للمؤسسات) بما يعطي صورة متكاملة حول واقع عملها، ليستفيد من انتاجها كل مجتمع عملها كل شرائح المجتمع، بمن فيهم الأطفال وطلبة التعليم المدرسي والعالي، كما ينتقل من الدور التنظيري والتوثيقي والبحثي والاقتصار على عمل الدراسات والبحوث والمسوحات والاستطلاعات وغيرها، إلى تبني أجندة ومشروعات تنفيذية لمخرجات هذه الدراسات البحثية والأدوات التقييمية المستخدمة، عبر برامج التدريب والشراكة والمبادرات المجتمعية الأخرى التي قد تسهم في تعزيز الدور القادم لهذه المراصد والمراكز بشكل يصنع منها محطات لإعادة هندسة العمل الوطني الاجتماعي، وبالتالي أن تنتقل في دورها من كونها منصات استهلاكية إلى محطات لإنتاج وإعادة صياغة الواقع الاجتماعي بناء على استراتيجيات أداء واضحة واجندة عمل معلومة وموجهات مدروسة ومراجعات مقننة وأساليب مجربة، وان تتبني هذه المراصد في اجندة عملها شراكات عمل مع الكيانات المؤسسية الدولية النظيرة لها كالجامعات ومراكز البحوث الاجتماعية المتخصصة والمنظمات الدولية المعنية بالعمل الاجتماعي والاسري .
وعليه فإن المراهنة على دور هذه المراصد والمراكز في قادم الوقت، يستدعي مراجعة اختصاصاتها وآلياتها وموقعها في الهياكل التنظيمية للمؤسسات، ومستوى الجاهزية والصلاحيات الإدارية والتنظيمية والتمويلية والبشرية والبحثية والمادية لها، والتي تمنحها سلطة التواصل مع متخذي القرار أو على صعيد التشريعات والبنية التنظيمية والهيكلية والسلوك العام للمواطن.. فهل ستعيد الدولة منظورها في تأسيس المراصد والمراكز البحثية الاجتماعية بشكل يفوق التوقعات ويضمن لدورها نافذية التطبيق وكفاءة الأداء؟، وهل ستعمل تلك المراصد والمراكز الموجودة حاليا على إعادة هندسة المهام والاختصاصات المنوطة بها بشكل يتوافق مع طبيعة المؤشرات الاجتماعية والأجندة التي تعمل عليها؟ وهل ستتحول هذه المنصات التفاعلية البحثية من مجرد أدوات هامدة إلى مؤسسات عمل لإعادة انتاج مكونات الواقع الاجتماعي وفرض حلول ديناميكية للواقع في مواجهة التحولات التي باتت تدق ناقوس الخطر في واقعنا الاجتماعي؟.