جودة مرسي:
تشهد الهند موجة من الاضطرابات والاحتجاجات ضد سياسات رئيس وزرائها ناريندرا مودي، بعد أشهر قليلة من فوزه بالولاية الثانية في يوليو الماضي بعد قضاء 5 سنوات في سدة الحكم منذ 2014، يبلغ عدد سكان الهند أكثر من مليار وثلاثمائة مليون نسمة، وهي ثاني أكبر دولة سكانية في العالم بعد الصين، وتفتخر الهند بأنها دولة علمانية تتسع لتشمل كل الديانات والمعتقدات، وينص دستورها على التعددية، ما ساهم في وضع أرضية تسمح للتعايش السلمي بين أفراد المجتمع، الذي يتكون من عرقيات وديانات مختلفة، ويتحدث أفراده العديد من اللغات والتي تصل إلى أكثر من مائة لغة ولهجة، ويتكون نسيجه العرقي ما بين الآريين واليونانيين والمغول وأصحاب الأصول العربية والتركية والمغولية والمنحدرين من وسط آسيا، وهذا ما دفع البلاد المترامية الأطراف والتي كانت تشكل ما يشبه القارة أن تنعم بالسلام وتشهد تقدما ملحوظا في العديد من المجالات، وبفضل هذا التسامح الذي صنفها من أكبر الدول ديمقراطية وتنوعا في العالم، فتقدمت الهند تكنولوجيا وعسكريا واقتصاديا، وأصبحت الدولة الأولى تصديرا للعمالة في الخارج، وخصوصا دول الخليج العربي.
لم يخرج عن هذا التناسق الذي امتد لمئات السنين إلا بعض العناصر الهندوسية المتعصبة التي تخصصت في إثارة المشاكل بين الحين والآخر، بسبب اعتناقهم لعقيدة الهندوتفا (الأيديولوجية القومية الهندوسية) وهي عناصر قليلة يرفضها المجتمع الهندي، يحلمون بتأسيس دولة قومية هندوسية، ومما يهدد بجر الهند إلى حروب أهلية تعيدها إلى عصور الظلام من التخلف والانقسام.
مودي بعد فوزه في 2014 عن حزب بهاراتيا جاناتا، شكل حكومة قومية هندوسية، وشهدت الهند في عهدته الثانية احتجاجات في العديد من المناطق سقط على إثرها العديد من القتلى بسبب قانون جديد للجنسية، أقره البرلمان الهندي في 11 ديسمبر الماضي، ويسمح بمنح اللاجئين من أفغانستان وبنجلاديش وباكستان الجنسية الهندية، لكنه استثنى المسلمين فاعتبره المحللون تمييزا طائفيا واضحا. هذا الأمر أشعل الاحتجاجات التي اتسعت لتشمل غير المسلمين أيضًا، لكن مودي تراجع تحت وطأة الاعتراضات المحلية والضغوط الخارجية، وحاول طمأنة المسلمين بقوله إن “المسلمين المنحدرين من الأرض الهندية والذين أجدادهم هم أبناء وطننا الأم لا مبرر لقلقهم”.
مثل هذا القانون يدفع الهند للرجوع خطوات أسرع للوراء، خصوصا وأنه يعزز من وضع أيديولوجية القومية الهندوسية التي تسعى لتأسيس دولة قومية هندوسية حصرية (طائفية) ترفض الإسلام والمسيحية، وتعتبر الجاينية والسيخية والبوذية جزءا من الهندوسية.
إن الدول الطائفية كالعالق في الهواء لا يرى سوى نفسه، وفي نفس الوقت لا يدرك أن سقوطه حتمي، وللتاريخ نذكر أن ما من دولة تنازلت عن التسامح الديني والعيش في سلام إلا وظلت تعيش هاجس الحروب الأهلية، ففي الهند نفسها تسببت بعض الجماعات المتعصبة طائفيا في إشعال الفتنة عام 1992، حينما قام مجموعة من الهندوس بهدم مسجد بابري التاريخي، مدعين بأنه مهد الرب رام، ونتج عن ذلك وقوع أعمال شغب بين الهندوس والمسلمين أدى إلى مصرع آلاف الأشخاص، ولكن مع الوقت سقطت ادعاءاتهم، وتوارت أفكارهم.
فكرة الدولة الطائفية في وطن متعدد الديانات والعقائد ستعاني منه أجيال كثيرة قادمة، والأمثلة قائمة، على سبيل المثال الدولة اليهودية في إسرائيل والتي قامت على أساس ديني طائفي، استطاعت الوصول لصناع القرار في أكبر دول العالم، إلا أنها رغم ذلك تعيش هاجس الخوف من المصير القادم، ويشغلها هاجس أنها ستفنى وتسقط، ولم يهنأ شعبها رغم كل المقومات التي تملكها من قرارات سياسية وتحكم في قرارات أممية، وكثيرة هي الشعوب التي تعاني من محاولة بعض الجماعات إنشاء دول على أساس طائفي.
على صناع القرار الذين يغذون التعصب الديني والطائفية أن يعلموا أنهم يتسببون في انتهاك حقوق الإنسان، وأنهم إن كانوا يرتكزون على أن الطائفية لا تعترف بحدود السياسة أو الدين، وأن التعصب له قانونه ومعتقداته الخاصة التي تؤذي الإنسان، فإن الدولة العقائدية التي لا تراعي حقوق الأقليات أو اختلاف الديانات وتخرج عن نطاق الدولة المدنية، سيكون مصيرها الفناء، وسقوطها وشيكا، لأن التجديف والسباحة في الهواء لا تحرز تقدما ولا تمنع سقوطا.