أرادت طهران إعاقة هدير الحراك الشعبي الضاغط على أذرعها والنظام بمحاولة اقتحام السفارة
كاتب عماد الدين الجبوري
تجمّعت عناصر من الحشد الشعبي عند بوابة السفارة الأميركية وحطّموا كاميرات المراقبة والزجاج الخارجي (أ.ف.ب)
بمستهل العام 2020 دخلت انتفاضة العراق شهرها الرابع، وخلال هذه الفترة الوجيزة تبلور الحراك الشعبي بشكلٍ مذهلٍ، فمن طرح مطالب أساسيَّة في مكافحة الفساد والقضاء على البطالة وتحسين البُنى الخدميَّة والصحيَّة والتعليميَّة… إلخ. التي جابهتها حكومة عادل عبد المهدي بالقمع الوحشي، فتحوَّلت المطالب إلى أهداف بإسقاط الحكومة، وتشكيل أخرى مؤقتة، وإجراء انتخابات مبكرة لا تشترك فيها أحزاب الخراب، وإنهاء الهيمنة الإيرانيَّة.
وعلى الرغم من استمرار تزايد أعداد القتلى والمصابين والمخطوفين والمفقودين والمعتقلين على أيدي المجموعات المسلَّحة المدعومة من إيران، أمثال (العصائب، والكتائب، والنجباء، وبدر، والدعوة) وغيرها، وإصرار الشباب الثائر على تحقيق ثورتهم السلميَّة المدنيَّة، فإن الأهداف سرعان ما تبلورت باتجاه “حل مجلس النواب”، و”إسقاط العمليَّة السياسيَّة”، و”إعادة كتابة الدستور بعيداً عن المحاصصة الطائفيَّة والعرقيَّة”، وأهداف جوهريَّة أخرى.
بيد أن هذا التبلور السريع ناتجٌ عن ترسبات سنوات الفساد والتردي لدى الطبقة السياسيَّة منذ العام 2003، التي أوصلت البلاد إلى الدرك الأسفل في كل المجالات والميادين، ومن أهم أسبابها يعود إلى تفضيل مصالح العواصم المرتبطة بها على مصالح الشعب والوطن، فالأحزاب العلمانيَّة تجاه واشنطن، والدينيَّة السياسيَّة مع طهران وأنقرة، وغياب النظام الرسمي العربي الذي تعامل متأخراً مع بغداد وفق سياسة الأمر الواقع، ومن دون تأثيرٍ فاعلٍ في مجرى العمليَّة السياسيَّة، وربما لقناعة الأنظمة العربيَّة بعدم الانجرار خلف نظامٍ سياسيّ طائفيّ سيفشل حتماً.
فالسعودية، على سبيل المثال، استقبلت رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي في مطلع يونيو (حزيران) العام 2006 من أجل عراقٍ واحدٍ، وأعلنت الرياض دعمها المالكي، لكن الأخير لم يتوانَ عن مهاجمة السعودية لصالح إيران، لارتباطه الصميم بالمشروع الإيراني القائم على النزعة الطائفيَّة.
كما أن هذا التبلور الواضح يدل أيضاً على النضج في الوعي المجتمعي لدى الشباب المُنتفض، الذين جابهوا العنف الحكومي المُفرط بشجاعة وذكاء في آنٍ، إذ صمدوا بساحات اعتصاماتهم والتزموا نهجهم السلمي وقدموا التضحيات، وهكذا فرضوا وجودهم على أرض الواقع، وأثبتوا قدرتهم على أن يكون الشعب مصدر السلطات، فأجبروا عبد المهدي على الاستقالة، وكشفوا ضحالة مستوى الكتل السياسيَّة، التي انعكس تضاربها وسفاسفها على رئيس الجمهورية برهم صالح الذي قدَّم استقالته إلى مجلس النواب.
إيران والعمل الاستفزازي
علاوة على ما ذكرناه آنفاً، فإن وجود قيادات خفيَّة تخطط، وهياكل شبابيَّة تنفّذ من خلال اللجان التنسيقيَّة في المحافظة الواحدة أو بين المحافظات المُنتفضة ساعد كذلك على سرعة تبلور ونجاح هذا الحراك الشعبي في التظاهرات والاحتجاجات.
ومن مرحلة التبلور في الرؤيّة والموقف وَلِجت انتفاضة العراق نحو مرحلة التطور، خصوصاً بعدما تمكَّن الشباب الثائر من إسقاط أسماء المرشحين لرئاسة مجلس الوزراء من قِبل ما تُسمى بالكتلة الأكبر داخل مجلس النواب، من قُصي السهيل إلى أسعد العيداني، وإصرارهم على أن يكون المرشح مستقلاً من خارج نطاق أحزاب الفساد.
وفي خضم ما يجري من نزاع حادّ بين الكتل السياسيَّة، والولوج في الفراغ الدستوري، وتصعيد حملة الخطف والقتل والاعتقال، لا سيما أن شهوداً عياناً يؤكدون أن “سيارات رباعيَّة الدفع بلا لوائح رقميَّة تقوم بعمليات الاختطافات للناشطين والمتظاهرين السلميين”، وذكرت مفوضيَّة حقوق الإنسان بالعراق أنه يوجد نحو 166 مختطفاً ومفقوداً منذ الأول من أكتوبر (تشرين الأول) إلى 28 ديسمبر (كانون الأول) 2019.
وبما أن زيارات قاسم سليماني المُتكررة إلى بغداد أفشلها الشبابُ الثائرُ، سواء بخططه القمعيَّة للقضاء على الانتفاضة، أو بفرضِ بديلٍ لعبد المهدي من داخل الكتلة المواليَّة لإيران، وربما لهذا السبب أرادت طهران لفت الأنظار بعملٍ استفزازيّ، يؤدي إلى إعاقة أو تقليل هدير الحراك الشعبي الضاغط على أذرعها وعلى النظام الإيراني نفسه، لذلك أمرت “كتائب حزب الله العراقي” باستهداف القاعدة العسكريَّة (K1) بمحافظة كركوك شمالي العراق، ما أدى إلى مقتل مقاول أميركي.
وفي هذا الصدد، أشارت صحيفة (نيوزويك) الأميركيَّة، في تقريرها الصادر السبت المصادف 29 ديسمبر (كانون الأول)، أن “مسؤولين في الاستخبارات ألقوا باللوم على جماعات تقول الولايات المتحدة إن إيران تقف وراء دعمها”.
وحسب الصحيفة، بجانب المقاول القتيل يوجد جرحى أميركيون أيضاً، وكذلك إصابات في صفوف قوات الأمن العراقيَّة بسبب قصف نحو 14 صاروخاً من نوع “كاتيوشا”.
وجاء الردّ الأميركي، وفق ما ذكرت (رويترز)، فإن البنتاغون يقول “الطائرات الأميركيَّة تحرَّكت من داخل العراق وسوريا ومن قاعدة أميركا في قطر”، وإنها “ضربة تأديبيَّة ممكن أن تتوسع”، إذ قُصِفت سبعة مواقع تابعة إلى كتائب حزب الله بمحافظة الأنبار، وسقط فيها 54 قتيلاً، و108 جرحى، بينهم ثلاثة ضباط إيرانيين والمدعو أبو علي الخزعلي المُقرّب من قاسم سليماني، معاون آمر لواء 45 في منطقة القائم بين العراق وسوريا.
اقتحام السفارة الأميركيَّة
اتجهت إيران إلى تصعيد الموقف، فتحرَّك هادي العامري وقيس الخزعلي وغيرهما من قادة الحشد الموالي لها، بتظاهرة ضد السفارة الأميركيَّة، وبتواطؤ ملحوظ من رجال الأمن تسلل المتظاهرون إلى المنطقة الخضراء العصيَّة على الدخول، واقتحموا حدود السفارة، وأحرقوا بوابات الحمايَّة، لتنغص على إدارة ترمب ليلة رأس السنة الميلاديَّة، خصوصاً أن كتائب حزب الله نصبت خيام الاعتصام تجاه مبنى السفارة بالمنطقة الخضراء، معلنةً مرحلة مشابهة شيئاً ما لِما جرى للسفارة الأميركيَّة في طهران عام 1979.
وفي اليوم التالي، جددت عناصر الحشد محاولتها اقتحام السفارة، ضاربة بعرض الحائط دعوات برهم صالح وعبد المهدي بالانسحاب، وبذلك فإن أبواب الاحتمالات ستكون مفتوحة على مصراعيها عمّا سيحدث في الأيام القليلة المقبلة.
وبدقة أكثر، تجمّعت المئات من عناصر الحشد الشعبي وأنصارهم عند بوابة السفارة ومحيطها الخارجي، وحطّموا كاميرات المراقبة والزجاج الخارجي لمبنى الاستعلامات، ورُمِيَت قنابل حارقة محليَّة الصنع، فيما أُطلقت صفّارات الإنذار من داخل بنايَّة السفارة.
هل حراك العراق بلا قيادة؟
وكتب المعتدون على جدار السفارة (مغلق بأمر الشعب)، وهي محاكاة للعبارة التي دوَّنها الشباب المُنتفض في محافظتيّ كربلاء والنجف، على القنصليتين الإيرانيتين هناك، وكتبوا أيضاً (سليماني قائدي)، في إشارة إلى قائد فيلق القدس الإرهابي قاسم سليماني.
وبالمقابل، فإن متظاهري ساحة التحرير في قلب العاصمة بغداد أكدوا على نحو مطلق عدم صلتهم بالتظاهرات تجاه السفارة الأميركيَّة، وما نتج عنها من أعمال تخريبيَّة وإحراق بوابات حمايَّة السفارة وأحد أبراجها داخل المنطقة الخضراء، وكذلك أعلنوا أنهم مستمرون بتظاهراتهم السلميَّة حتى تحقيق الأهداف.
وهذا الموقف الإيراني المتطور، إنما يعكس هلع النظام من تنامي خطورة انتفاضة العراق، وما ستحققه عاجلاً وليس آجلاً، لذلك صعّدت إيران من وتيرة موقفها لخلق وضع يزاحم الانتفاضة بغيَّة تهميشها ثم تجاوزها.
من هنا، فإن انتفاضة العراق السلميَّة فشلت إيران وأذرعها في القضاء عليها، وهي تدفع بموقفها السلبي ضد الولايات المتحدة الأميركيَّة داخل العراق، ما يؤثر بصورة أو أخرى على الشباب المُنتفض، لأنهم مدنيون سلميون بحاجة إلى حمايّة، لا سيما أن القوات الأمنيَّة لا توفر لهم أدنى مقومات الأمن والأمان، بل ولم تتمكّن أجهزتها من الكشف عن “الطرف الثالث” الذي يقوم بعمليات الخطف والقتل طيلة الأشهر الثلاثة المنصرمة.
لذلك، يتوجّب على النظام الرسمي العربي بصفة خاصة والمجتمع الدولي بصفة عامة، أن يوفّر للمتظاهرين والمعتصمين السلميين في ساحات الاحتجاجات الحمايّة اللازمة والواجبة لهم، وفقاً للأعراف الإنسانيَّة والقوانين الدوليَّة، خصوصاً أنهم أعلنوا عدم صلتهم بالتظاهرة الحشديَّة والاعتداء على السفارة الأميركيَّة بالمنطقة الخضراء.