يستهل تقرير نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية بالإشارة إلى انخفاض الطلب على النفط، بسبب انتشار جائحة فيروس كورونا المُستجد، وحرب الأسعار الوحشية المتزامنة؛ اللذين نجم عنهما تعطل صناعة ما يسمى بالوقود الأحفوري، وجعلاها تحاول البقاء على قيد الحياة، على حد قول المحللين، الذين يحذرون من أن تلك الصناعة تواجه أخطر تحدٍ في تاريخها الممتد لمئة عام، الأمر الذي سيغير الصناعة بشكل دائم. ومع وصف البعض للمشهد بأنه «مُرعب كالجحيم» فإن أخف وصف للأمر هو أنه “غير مسبوق”.
ويتساءل التقرير، السؤال الرئيس هو: هل سيغير هذا المشهد مسار أزمة المناخ بشكل دائم أم لا؟ ويعتقد كثير من الخبراء أنه قد يفعل ذلك حقًّا، بتأجيل موعد وصول الطلب على النفط والغاز لذروته مجددًا، وإتاحة الفرصة للغلاف الجوي للتعافي تدريجيًا. وأجرأ هؤلاء الخبراء يعتقدون أن ذروة الطلب على الوقود الأحفوري قد تحدث في المكان والزمان الحاليين، وسوف يسجل التاريخ العام المنصرم 2019 بصفته عام الذروة لانبعاثات الكربون، لكن البعض يتبنى وجهة نظر معارضة، مفادها أن صناعة الوقود الأحفوري سوف تعود سريعًا لمستواها كما كانت دائمًا، وستؤدي أسعار النفط المتدنية إلى إبطاء مرحلة التحول الضرورية للغاية للانتقال إلى الطاقة النظيفة.
يضيف التقرير: ما لا شك فيه هو أن هذا القطاع يشهد مذبحة، تتمثل في هبوط أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها منذ ما يقرب من عقدين من الزمان، مع احتمال وقوع الأسوأ في المستقبل. فبعض قيم سوق الأسهم النفطية الرئيسة انخفضت إلى النصف منذ كانون الثاني. وتوقف ما لا يقل عن ثلثي الاستثمار السنوي الذي تبلغ قيمته 130 مليار دولار لعدم الحاجة إليه، وفُقدت عشرات الآلاف من الوظائف. وفي عدد قليل من الأسواق، أصبحت الأسعار سلبية بمعنى أن البائعين سيدفعون لك لأخذ النفط، في ظل امتلاء سعة التخزين العالمية.
تقول مديرة أبحاث الشركات في مؤسسة «وود ماكينزي»، فالنتينا كريتزشمار “إن حرب الأسعار وفيروس كورونا المستجد أوقعا قطاع النفط والغاز في حالة من الاضطراب، والآن لدينا شركات تحاول البقاء على قيد الحياة”.
يشير التقرير إلى أن آبار النفط التي تنتج نحو مليون برميل يوميًا ربما تكون اُغلقت بالفعل، لأن سعر النفط أصبح الآن أقل من تكلفة شحنه، بحسب ما ذكرت شركة الخدمات المصرفية الأمريكية العملاقة «جولدمان ساكس»، مع تزايد عدد الآبار التي تُغلق «على مدار الساعة». ويقول جيفري كوري، رئيس قسم السلع بالبنك إن هذا من المحتمل أن «يغير بشكل دائم صناعة الطاقة وجغرافيتها السياسية» و«يغير النقاش بشأن تغير المناخ”.
ويذكر كاتبو التقرير أن الطلب على النفط انخفض، نظرًا لأن فيروس كورونا المستجد احتجز الناس في منازلهم وأبقى الطائرات في مدارجها. ويقول كينجسميل بوند، من مؤسسة محللي «كاربون تراكر» (مقتفو آثار الكربون)، «سيقرّب الفيروس وصول الطلب على الوقود الأحفوري من ذروته». فهذه الصدمة النفطية الدورية الأخيرة تضرب صناعة كانت تتجه بالفعل نحو تحقيق ذروة هيكلية أنشأتها دول ملتزمة بتحقيق وقف تام للانبعاثات الكربونية في المستقبل. ويضيف «بالنسبة لتأثير الفيروس على توقيت ذروة الطلب، فإنه يعتمد بالطبع على شدته”.
في عام 2018، قدرت مؤسسة كاربون تراكر أن ذروة الطلب ستأتي في عام 2023، لكن المحلل كينجسميل بوند يقول إنه من المحتمل أن تكون الأزمة قد قدّمت هذا التاريخ بثلاث سنوات. ويبين «هذا يعني أن ذروة الانبعاثات كانت في عام 2019 بالتأكيد، وربما ذروة الوقود الأحفوري أيضًا»، و «قد تكون هناك ذروة صغيرة أخرى في عام 2022، قبل أن يبدأ التراجع الجامح”.
وفي حين أن شركات النفط نفسها لطالما جادلت بأن ذروة الطلب بعيدة جدًا ولا يمكن تحديد تاريخ بعينه، يعتقد معظم المراقبين أن الذروة ستحدث في هذا العقد. ويوافق رئيس أبحاث الاستثمار في تغير المناخ في بنك «بي إن بي باريبا»، مارك لويس، على أن الأزمات قد تقرب هذا الموعد.
ويقول لويس: عندما تهدأ العاصفة وتستقر الأوضاع، سيثور الحديث عن ذروة الطلب على نحو أقوى من أي وقت مضى. ويضيف «وهذا الأمر صحيح بالتحديد إذا فشل الطيران لمسافات طويلة في التعافي. فهذا النشاط كان مصدرًا قويًا جدًا لنمو الطلب على النفط في السنوات الأخيرة، لكن كلما طالت مدة بقائنا في المنزل والعمل أثنائها عن بُعد بوساطة الإنترنت، وباستخدام مؤتمرات الفيديو سيزداد عدد الأشخاص الذين يتساءلون: هل نحن حقًا بحاجة إلى ركوب الطائرة؟”.
حللت مجموعة وود ماكنزي قبل ايام تأثير سعر النفط البالغ 35 دولارًا على خطط الاستثمار السابقة للشركات لعام 2020. وقالت شركة كريتزشمار «إنها صورة قبيحة جدًا، جدًا». وأوضحت أنه «عند سعر 35 دولارًا للبرميل، لا يغطي 75٪ من المشاريع حتى تكلفة رأس المال”.
تعرضت صناعة النفط بالفعل لضغوط من المستثمرين الذين يشعرون بالقلق إزاء أزمة المناخ وقوانين خفض الانبعاثات الكربونية المتزايدة التي تصدرها الحكومات. وقال كولين ميلفين، من شركة “أركاديكو بارتنرز”، وهي شركة استشارية تقدم المشورة لبعض كبرى صناديق إدارات الاستثمار والمعاشات التقاعدية في العالم، إنه يتوقع بعد الأزمة أن يتدفق الاستثمار بشكل متزايد نحو الشركات التي يُعتقد أنها تقدم مزايا اجتماعية أكبر.
ولا يعتقد جميع الخبراء أن خسارة صناعة النفط هي بالضرورة مكسب للطاقة النظيفة والمناخ. وفي هذا الصدد، يقول ديتر هيلم، أستاذ سياسة الطاقة في جامعة أكسفورد: «إن كان من شيء سيحدث فهو أن حصة النفط ستبقى متماسكة لفترة أطول، لأنه أرخص، وقد تكون هذه بمنزلة أنباء سيئة من الجانب المناخي”. ويضيف إن تحقيق تعافٍ اقتصادي، من أزمة فيروس كورونا المُستجد، بالطاقة النظيفة يتطلب اتخاذ إجراءات سياسية مدروسة من الحكومات.
تضخ الحكومات مبالغ هائلة لتحفيز الاقتصاد العالمي المتضرر للغاية من انتشار فيروس كورونا المستجد اذ ضخت دول مجموعة العشرين وحدها 5 تريليون دولار ولكن كيفية صرف هذه الأموال لا تزال غير مؤكدة. فقد تعهد قادة الاتحاد الأوروبي بجعل إجراءاتهم الطارئة تتماشى مع برنامج الصفقة الخضراء، ويقول فاتح بيرول، المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية، إن هناك «فرصة تاريخية» لضخ الاستثمار في تقنيات الطاقة التي تخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. لكن حزمة الإغاثة، التي رصدتها الولايات المتحدة الأمريكية للتخفيف من آثار فيروس كورونا المستجد، والبالغ قيمتها 2 تريليون دولار، تخصص 60 مليار دولار لشركات الطيران المتعثرة، وتقدم قروضًا منخفضة الفائدة لشركات الوقود الأحفوري، من دون الحاجة إلى اتخاذ أي إجراء لوقف حالة الطوارئ المناخية. وقالت الحكومة الكندية إنها ستقدم قروضًا لشركاتها النفطية، التي تقول إنها «تعتمد على هذا الدعم لتظل على قيد الحياة”.
وتقول أدريان بولر، الخبيرة الاقتصادية في مركز أبحاث الكومنولث، إن الحكومات في دول مثل المملكة المتحدة، والولايات المتحدة، وكندا يجب أن تنظر الآن في مسألة تأميم شركات النفط الكبرى. وتردف «لن يُسمح لشركات الوقود الأحفوري بالفشل بشكل جماعي”. يكمل التقرير نقلًا عنها: يجب أن تصاحب أي خطة إنقاذ، في الأقل، حصصًا عامة مكافئة في الشركات، وشروطًا قوية لحماية البيئة والمناخ، وتحولًا تامًا عن إنتاج الوقود الأحفوري. وتضيف بولر «ومع ذلك، وبالنظر إلى أن القصد من الحصول على هذه الحصة يجب أن يكون إنهاء الإنتاج في أسرع وقت ممكن مع ضمان انتقال عادل للعمال، وتأمين لإمدادات الطاقة، قد يكون التأميم أكثر ملاءمة وواقعية”.
وتصر الهيئة التجارية الصناعية العالمية، الرابطة الدولية لمنتجي النفط والغاز، أن لأعضائها دورًا حيويًّأ بعد انتهاء الوباء. ويقول المتحدث باسم الرابطة ان «النفط والغاز يلعبان دورًا مهمًا في مزيج الطاقة العالمي وسيفعلان ذلك في المستقبل». ويضيف ان «من السابق لأوانه التكهن بما سيكون عليه التأثير في منتصف المدة. لكن صناعة النفط والغاز لها تاريخ من التجاوب الناجح مع المواقف الصعبة، ونتوقع أن تتكيف كما فعلت من قبل”. وتابع: «علاوة على ذلك، كانت الصناعة محركًا رئيسيا للازدهار ودافعًا للابتكار لعدة عقود». وأردف قائلًا: «فالصناعة لديها الخبرة، والمهارات، والمعرفة، والموارد المطلوبة لتحقيق مستقبل طاقة منخفض الانبعاثات وهو انتقال سيكون أكثر صعوبة وأكثر تكلفة من دونها”.
أما ما أضاف الزيت على نار الجائحة، بحسب وصف الصحيفة، هي حرب الأسعار التي تشنها المملكة العربية السعودية وروسيا، اللتان زادتا إنتاج النفط في الوقت الذي قلل فيه الوباء من الطلب عليه، مما دفع الأسعار إلى أدنى مستوياتها. وتعد هذه التحركات بمثابة محاولة للاستيلاء على حصة في السوق عن طريق القضاء على المنتجين الأعلى تكلفة الذين يقفون خلف طفرة الوقود الصخري في الولايات المتحدة.
ويقول البروفيسور برنارد هيكل، من جامعة برينستون بالولايات المتحدة، إن الأمر يعكس أيضًا تحولًا استراتيجيًا أكثر جوهرية بقيادة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وانه «في ضوء أن التحول العالمي للطاقة النظيفة أمر لا مفر منه، يسعى ولي العهد للحصول على المال بأي وسيلة، وبينما لا تزال المملكة قادرة على ذلك”.
ويعتمد التأثير الدائم لحرب الأسعار على المدة التي تستطيع فيها السعودية وروسيا الاستمرار في ضخ النفط الرخيص. وفي حين أن تكاليف إنتاجهما منخفضة للغاية، فإنها تعتمد على تحقيق عائدات مرتفعة لتحقيق التوازن في ميزانياتها الوطنية.
ويقول مايكل ليبريتش، من مؤسسة «بلومبرج نيو إنيرجي فاينانس»، إن التعادل المالي بالنسبة للسعودية يتراوح في حدود 80 دولارًا للبرميل، مما يعني أن احتياطياتها من العملات الأجنبية قد تحافظ على أسعار النفط المتدنية لمدة عامين أو ثلاثة أعوام فقط. ويضيف «أما روسيا، في ظل تعادل مالي قدره 40 دولارًا للبرميل، واقتصاد أكثر تنوعًا بكثير، يمكنها النجاة في ظل أسعار النفط المنخفضة لعقد من الزمن”.
ومهما حدث، فإن الصناعة لن تكون هي نفسها مرة أخرى بعد الضربة المزدوجة التي تعرضت لها من الوباء وحرب الأسعار. وعن ذلك، يقول بوند من مؤسسة كاربون تراكر، ان «الشركات التي خرجت من الأزمة لن تكون هي التي دخلت فيها. وسنشهد تخفيضات في القيمة الدفترية للشركات، وإعادة هيكلة، وتغييرا جذريا”.
ويختم تقرير صحيفة الجارديان بالقول: إن الخبراء، بمن فيهم كوري في مؤسسة «جولدمان ساكس»، يقولون إن النقاش بشأن تغير المناخ سيأخذ بالتأكيد مسارًا مختلفًا بعد الأزمة. ولكن سيبقى أن نرى ما سيظهر عليه الأمر بالضبط. وتقول شركة كريتزشمار ان «السؤال المطروح هو إلى متى يستمر كل هذا، ولا أحد يعرف حقًا”.