من أجل الحصول على سياسة تعليمية قوية وواضحة ومحققة للطموحات والتطلعات؛ لا بد أن نختار النخبة من صفوة المفكرين والخبراء والباحثين لوضع هذه السياسة نظريًّا وواقعيًّا، سياسة تكون قابلة للتطبيق والمتابعة وإحداث الفرق، وتحقيق غايات السياسات الأخرى المرتبطة والمتداخلة معها.
دائمًا ما يردد أصحاب الفكر التربوي والمعنيون بالتعليم كلمة السياسات التعليمية في المقابلات والمؤتمرات وغيرها، كما نقرأها في كثير من الوثائق والدراسات؛ والسياسة التعليمية هي جزء من سياسة الدولة العامة التي تحدد فيها أسس وأنظمة الصحة والاقتصاد والإسكان والتشغيل والأمن والدفاع والعلاقات الداخلية والخارجية وغيرها، وتحدد فيها الغايات والأهداف العامة لكل تلك السياسات. وتعد السياسة التعليمية هي اللبنة التي تتشكل بها باقي أنظمة وسياسات الدولة، ما يعني أهمية وخطورة هذه اللبنة على مجتمع الدولة بأسره، لذا لا بد أن تحظى هذه السياسة بالعناية والدقة في وضعها ورسمها. وكلما كانت هناك عناية فكرية وأمانة وطنية ورؤية ثاقبة وواسعة للسياسة التعليمية ضمنا تحقيق النجاح المرجو لباقي السياسات الأخرى، فالسياسة التعليمية في حد ذاتها هي مرآة لطموح وغايات وثقافة وتطلعات الدولة. ودليل أهمية هذه السياسة ما قامت به القيادات السياسية حين اتخذت على عاتقها نقل دولها إلى مستوى يليق بها، حيث بدأت أولًا بإعادة رسم سياسة التعليم؛ وهذا ما حدث في الولايات المتحدة الأميركية عام 1982م تحت شعار “أمة في خطر” الذي قضى بإعادة هيكلة التعليم الأميركي بالكامل، وما حدث في ماليزيا عام 1963م تحت شعار “ازرع تعليمًا قويًّا تحصد اقتصادًا قويًّا”.
وفي نظري؛ كلمة سياسة تعني خريطة طريق نحو تحقيق غاية أو هدف أو رؤية بعينها؛ فكلما كانت هذه الخريطة واضحة الملامح والمسالك والمبادئ والآليات كانت الأفعال تتناغم وتسير في ذات المسار نحو تحقيق غايات السياسة المعلنة والخفية، كما لا بد أن تكون هذه الخريطة سهلة القراءة والفهم والبوح بمضمونها وغاياتها وآلياتها للمهتمين بشأن التعليم، فمتى ما تحقق ذلك أصبحت سياسة التعليم مرنة وقابلة لاحتواء أية تغييرات أو تطورات عالمية مادية كانت أم معنوية. لكن واقع سياسة التعليم في كثير من الأحيان يعاني من بعض الضبابية والتخبط؛ وهذا ما نلاحظه من تبني مشاريع أو رؤى وأفكار بكل الدعم الفكري والمادي والمعنوي؛ ثم ما تلبث وأن تصبح هباءً بُعيد فترة لم تكن كافية لنستطيع القول إنها فشلت! فما مسببات هذا الواقع الذي تهدر فيه الأموال، وتقمع فيه الطاقات البشرية، وتحبط فيه العلاقات لتخلق جوًّا من عدم الثقة بين المشرع والمنفذ؟!
قد أسمح لنفسي هنا بتوصيف السياسة التعليمية توصيفًا مجازيًّا يتيح لنا تشخيص نقاط الضعف وفهم آلية الترميم والعلاج؛ وهو أن سياسة التعليم تقوم على أمرين هما: الوثائق المكتوبة، وتتضمن الفلسفات والرؤى والغايات والأهداف التعليمية العليا لدولة ما، وآليات واستراتيجيات التطبيق والأنظمة والاحتياجات المالية والبشرية والتقنية والمحددات الزمانية والمكانية التي تتطلبها تحقيق تلك السياسة، وهذه الوثائق بمثابة الدليل أو الدستور أو خريطة الطريق لتحقيق الهدف. أما الأمر الآخر فهو عملية تنفيذ ما جاء في الدليل أو كما تعرف بالسلطة التنفيذية، ومهمتها تنفيذ أطر ومبادئ وقوانين وآليات الدليل. ولا بد من أن يسير هذان الأمران في خطٍّ واحد وإلى جبهة واحدة حتى نستطيع القول إننا نسير نحو تحقيق الغايات العليا لسياسة التعليم ورؤية الدولة. أما إذا شاب التنفيذ غموض أو انحراف عن مسار الأهداف المرسومة فستظهر الإخفاقات وربما العراقيل التي تحد من الوصول للهدف، مُحدِثةً بذلك فجوة بين التنظير والتطبيق.
ولتجنب تلك الفجوة؛ يجب اتباع بعض الأسس والمبادئ في تنظيم العلاقة بين الأمرين، والتي ألخصها في الإجابة عن أسئلة أهمها: من يضع ويرسم السياسة التعليمية للدولة؟ ما مدى مشاركة السلطة التنفيذية في رسم السياسة؟ ما الأسس التي تقوم عليها السياسة التعليمية؟
من أجل الحصول على سياسة تعليمية قوية وواضحة ومحققة للطموحات والتطلعات؛ لا بد أن نختار النخبة من صفوة المفكرين والخبراء والباحثين لوضع هذه السياسة نظريًّا وواقعيًّا، سياسة تكون قابلة للتطبيق والمتابعة وإحداث الفرق، وتحقيق غايات السياسات الأخرى المرتبطة والمتداخلة معها. وهذا ما قام به من سبقونا حين أوكلوا المهمة إلى من هم أهل لها، بدراسة الواقع ورصد مكامن الضعف وتحديد العلاجات وآليات واستراتيجيات تطبيقها، وليس العبرة هنا بكثرة العدد في مثل هذه المهمات فليس الهدف الكم وإنما الكيف، فعلى سبيل المثال أوكل رئيس الولايات المتحدة الأميركية مهمة إعادة رسم سياسة التعليم إلى ثمانية عشر شخصًا فقط. كما لا بد أن تكون مساهمة السلطة التنفيذية في رسم السياسة التعليمية محددة؛ فلا ينبغي النأي بها عمن يسترشد بها في عمله وينفذ ما جاء فيها؛ كما لا يمكن توكيل هذه المهمة إليه أيضًا، وإنما أشارك هذه السلطة والأخذ برأيها في بعض القضايا والمسائل التي تتطلب سبرًا واستطلاعًا للآراء واقع التطبيق؛ وذلك من أجل ضمان قابلية التطبيق لتلك الآليات وتحقيق الغايات حتى لا تعيش في أطر التنظير؛ وإلا لن نصل ولن نحقق ما نريد. ولعل ما يؤكد هذا الكلام، السياسات التعليمية التي تنتهجها الدول المتقدمة؛ وهي أن هذه الدول تضع الخطوط العريضة والأنظمة والغايات العليا والأهداف العامة وتترك مسألة التنفيذ والتطبيق على المؤسسات التعليمية ومن في حكمها، وبشيء من المتابعة والتقييم تضمن أن هذه المؤسسات تسير حسب ما هو مرسوم ومخطط لها. وحتى نسلك ذات المسار علينا إعادة هيكلة وضع الرؤى والسياسات ومن يضعها قبل كل شيء؛ ففي الوقت الذي يطالب فيه أن تكون السياسة الموضوعة مرنة وقابلة لتضمين واحتواء التغيرات والتطورات التي تحدث في العالم، مطلوب منها أيضًا أن تكون حازمة لا تجعل التغيرات العابرة والأفكار الوقتية والشخصية تؤثر فيها، وأن تكون راسخة في أهدافها وغاياتها مشددة على آليات تطبيقها، فأحد أسباب اعتماد مشروع ما أو مقترح لسنوات ثم العدول عنه أو العودة إلى نظام كان معمولًا به سابقًا؛ هو ناتج عن تدخل أفكار المنفذين والآراء الشخصية على حساب رؤية السياسة التعليمية دون تفحيص وتمحيص لهذه الأفكار التي يروَّج ويسوَّق لها بصورة جذابة وناجحة، أو ناتج عن قصور الرؤية في بعض الأحيان لمن بيدهم القرار.
وحتى نرسم سياسة تعليمية تخدم سياسة الدولة وتحقق أهدافها العليا، علينا التركيز على مجموعة من الأسس؛ منها محور السياسة والأهداف التعليمية حول القضايا الرئيسية لرؤية الدولة، وإعادة رسم نظام التعليم بما يخدمها من كوادر بشرية وخطط تنموية واقتصاديات تعليمية وموارد تقنية مادية وبرامج بحثية ومناهج تعليمية، والبناء على ما هو ناجح وقائم من أذكى طرق التقدم والتطور السريع؛ وعدم المكوث طويلًا في قراءة الأطلال؛ فاستثمار الوقت يعد من أكبر مقومات مواكبة التطور. والأخذ بالنقد الهادف، فهو أمر حيوي لاستقامة السياسة التعليمية، النقد الذي يبني مواطن الإبداع والقوة ويبين مواطن القصور والإخفاق. والبعد عن الانجراف لفكرة جديدة غير متماشية مع واقعنا الذي نعيشه؛ لكونها فقط توجد في بلد ما، وإن كان لا خيار من ذلك فلا بد من تهيئة الأرضية والقاعدة البشرية والمادية للتطبيق قبل كل شيء.
وعليه؛ حينما نتحدث عن السياسة التعليمية ومقياس نجاحها؛ فمن وجهة نظري نجاحها يقاس بما تستطيع تحقيقه وتطبيقه على أرض الواقع وبمقدار مرونتها وقابليتها في احتواء المتغيرات والاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية والتقنية والسياسية. فمتى ما أردنا تأسيس مرحلة جديدة لرؤيتنا وطموحاتنا المستقبلية والمواكبة العصرية، علينا إعادة هيكلة السياسة التعليمية وفقًا لأسس راسخة تنتهي بتحقيق الرؤية الحديثة.
د.رضية بنت ناصر الهاشمية