مَنْ يروض الوحش..؟

1

 
 
سلام حربه
 
الإنسان حامل المتناقضات، فهو يحمل الخير والشر، العلم والجهل، القبح والجمال، الإيجاب والسلب، الذكورة والانوثة، الانسانية والتوحش وو.. لكن يبقى السؤال من يُغلّب صفة على أخرى في الإنسان، ولمَ لم يكن الانسان دائما خيرا او عنوانا للشر..؟ هذا السؤال يُحيل الى طبيعة المجتمعات التي يعيش فيها، فإن كان المجتمع سليماً ونظامه السياسي يقوم على العدالة الاجتماعية، وبناه الاقتصادية راكزة ومؤسساته الديمقراطية رصينة وشفافة، وقواه الروحية والتاريخية موغلة في الأصالة، والناس تعيش جميعاً، بلا استثناء، تحت طائلة القانون، وكان سياسيوه وطنيين محبين لشعبهم، حريصين على كل طابوقة تبنى أو دينار يصرف، يبنون الحاضر وعيونهم على مستقبلٍ آمنٍ يعيش فيه الأبناء والاحفاد بسعادة، فحتما سيكون المواطن فاعلا وايجابيا وانسانيا متحضرا، طبعا هذا لا يلغي ان تحصل خروقات واخطاء هنا وهناك، لكنها تبقى فردية وليست عامة، وقابلة للاصلاح بوجود الارادة الوطنية. التكامل غالبا ما يكون نادرا ومستحيلا هذه الايام.. وما يجب التوقف عنده هو ملاحظة ما يجري في البلدان المصنفة بأنها الارقى والاعظم في سلم التطور، والرائدة في الثورة العلمية التكنولوجية، والنماذج هي امريكا وبلدان العالم الغربي وما يحصل فيها، بين حين وآخر، من انتفاضات جماهيرية نتيجة لخلل سياسي او اقتصادي، وقد تجاوزت مراحل ما بعد الحداثة في العمارة والاختراع التكنولوجي، والاكتشافات العلمية الباهرة، ونفاذ علمها في مجاهيل الكون وما بعد الثقوب السوداء، وهذا لم يتم بالغيبيات بل بالاجهزة العلمية والقوانين الرياضية والمختبرات المتطورة، ما يجعل الكون كله بقبضة العلماء حاضرا ومستقبلا. في المنطق العلمي يجب ان يكون مواطنها غاية في السلوك الراقي المتمدن حتى حين يطالب بحقوقه، لكن ما ينقله الواقع عبر شاشات التلفزيون والاخبار يثبت عكس ذلك. ان الكثير من المواطنين أبناء هذه الحضارة والمدن العجيبة وتقليعاتها المعمارية، ينزعون اقنعتهم ليبدوا متوحشين اعداءً للانسانية، مخربين، لصوصا، قتلة، لا يتوانون عن احراق البلد كله مقابل اشباع غريزة الانتقام والكراهية والعنف التي تنهش نفوسهم، وهذا ما حصل ويحصل في أميركا وبعض البلدان الأوروبية، بحيث ان المُشاهد لأفعال هؤلاء الغوغاء يجدها تتنافى مع مظاهر الحضارة الغربية ومواطنها الخارق التي يتشدق بها الفلاسفة والمفكرون، بأنها نهاية التاريخ وخاتمته، وهي الفراديس والجنان التي تنعم بالسلام والسكينة والرخاء، وسيكون الانسان الجديد هو المطلق الذي بشرت به الفلسفات المثالية والاديان الوضعية والسماوية، وبدل ان تكون الجنة في طبقات السماء فإنها ستكون ارضية، وفي الغرب تحديدا، ويعيش الجميع في أبديتها..
 
تاريخ النظام الرأسمالي، ومنذ تطور الآلة عبر قرون، عصابي متوحش مادي بلا روح، لا معنى فيه سوى لفائض القيمة وسيادة الاحتكار والاستغلال واشباع غرائز الانسان الحسية، واسقاط لكل ما هو فكري وروحي. الانسان في الراسمالية سلعة تباع وتشترى وصامولة في ماكنة المؤسسات الاحتكارية، هذا النظام بنى للإنسان مدناً خرافية وفرت له ممكنات العيش المعقول والرعاية الصحية ودور العجزة التي يدفن بها شيخوخته، لكنه جرد الانسان من قواه الفكرية، من تأملاته، رصيده الفلسفي، من تاريخه النضالي، وتضحياته ومآسيه عبر التاريخ. ما يعانيه الانسان في الغرب أزمة فكرية حادة وفراغ روحي مرعب، واجابات المسؤولين هناك جاهزة؛ العلم بديلا عن الفكر والفلسفة، وهو الذي يجيب عن كل التساؤلات، لقد كُنس من حياة الانسان تاريخ الفلسفات وجدلها، تاريخ الروح، صراع الطبقات وأفكارها، وحتى الاديان بأساطيرها وسردياتها القيمية، لذا حين يحصل الاعصار السياسي والعنصري ويلتف حبل المشنقة الاقتصادية حول رقبة النظام، أو من كائن غير مرئي كفيروس كورونا، يهدد مصير المواطن ووجوده، حينها ينطلق المارد الرابض في داخل الانسان المسحوق، هذا الوحش لم تروضه الأفكار والمعتقدات والقيم الإنسانية، لأنه لم يتربَّ عليها، فهو مُستهلَك ودمية بيد الراسمالي المُستغِل، يعمل ليلا ونهارا من اجل تأمين حاجياته اليومية واشباع غرائزه الحسية..
 
لا يمكن مقارنة ما يحصل أحياناً في هذه البلدان المتطورة حضاريا، مع بلدان كثيرة في العالم الثالث، ومنها العراق، فالاحتجاجات والتظاهرات مستمرة في العراق منذ اكثر من عشر سنين، ضرب فيها مثالا اخلاقيا وسلوكا حضاريا مميزا، وخصوصا الاخيرة في 1 تشرين عام 2019 وما زالت، على الرغم من أنَّ المواطن يعيش في مدن مخربة لا خدمات فيها، ويعاني من البطالة والفقر وشظف العيش. العراقي حين احتج لم يسرق متجراً ولم يحرق مؤسسة حكومية ولم يعكس سلوكه انحرافا اخلاقيا او أبسط خرق اجتماعي مشين، برغم الأخطاء التي حصلت في التظاهرات، وحصول بعض مظاهر العنف وسقوط الضحايا وإشعال الحرائق من قبل المندسين، من اجل حرف الانتفاضة عن اهدافها السامية النبيلة، لكنَّ العراقي اثبت أنَّ وعيه السياسي متقدم وارادته الوطنية عالية، وهذا متأتٍ من تسلحه بالافكار والعقائد الانسانية التي تبنتها الشخصيات السياسية والاحزاب الوطنية والحركات اليسارية، عبر تاريخها النضالي، وربت عليها اجيالا من الشعب، وكذلك رسوخ وثبات القيم الروحية التي بنيت في المجتمع من ارثه التاريخي الحضاري والديني والعشائري الموغلة في القدم.. الانسان ابن الواقع حقا، وجيناته ترسمها الروح التاريخية الاصيلة التي تسري في أول خلية نشوء للوطن، وحتى آخر لحظة زمن في حياة مواطنها.

التعليقات معطلة.