ابراهيم بدوي
إن بقاء القضية الفلسطينية أضحى ليس مرهونا بالعمق العربي كما كان قديما، فالعمق العربي جزء كبير منه يسعى لصفقة كبيرة مع ترامب ومن خلفه المحتل الصهيوني الغاصب، ولا يستطيع الصمود وفق شرعية الحق وحدها، بالإضافة إلى أن سلاح المقاومة وإن كان يمثل مخاوف للمحتل، لكنه لا يستطيع الحسم، كما يمثل هاجسا حقيقيا لشركاء الوطن من الفلسطينيين، فالواجب هنا العودة لما قبل التحركات الأحادية، والتوافق على استراتيجية وطنية تفتح الآفاق لكافة الخيارات الفلسطينية..
دخلت القضية الفلسطينية منعرجا صعبا برغم البشائر التي هلت من قطاع غزة، وتنازل حركة حماس عن إدارة القطاع، وتسليم مهام إدارته لحكومة الوفاق الفلسطينية. فبرغم هالة الاحتفال والاحتفاء المصاحبين للحدث، خرجت بعض التصريحات التي تشير إلى أن إنهاء الانقسام ليس بهذه السهولة التي يتحدث بها البعض، فحديث الرئيس عباس عن سلاح المقاومة، وتمسكه بأن يكون هناك سلاح واحد بين السلطة الحاكمة ـ وإن كان له دوافعه المرتبطة بأحداث الانقسام السابقة ـ إلا أنه يصطدم بوجهة نظر ترفض تسليم السلاح، حتى لا يتحول القطاع الأبي لجزء من اتفاقية أوسلو بعد أن كان عنوانا للصمود الفلسطيني رغم الحصار، والعدوان الصهيوني المتكرر في العقد الماضي، وترى وجهة النظر هذه أن هذا السلاح هو ما يجعل كيان الاحتلال الإرهابي لا يزال يتشدق بوعود السلام، فمخاوفه من غزة هي الطريق الحقيقي وفق وجهة النظر هذه الذي سيقود لسلام عادل وشامل.
فحتى نكون صريحين مع أنفسنا، يجب أن نعي أن الخلاف الفلسطيني ـ الفلسطيني ليس بسبب نزاع على السلطة بين حركتي فتح وحماس وكل من يدور في فلكهما من فصائل، لكنه خلاف استراتيجي على آليات المقاومة، ففتح ومنظمة التحرير الفلسطينية بتاريخها النضالي الكبير اختارت أن يكون النضال سلميا، يقرأ بواقعية حقيقة النظام العالمي الحالي، ومكوناته المختلفة التي وإن اختلفت في المصالح إلا أنها تتوافق ضمنيا رغم شعارات بعضها على إبقاء دولة الكيان الغاصب، وعدم الضغط عليها وفرض سلام حقيقي يقر الحقوق الفلسطينية، وهو ما ينعكس على الغطرسة الاحتلالية، وتجاهلها الدعوات الدولية التي تخرج من هنا أو هناك على استحياء، لتأكدها أن الوضع العربي والإقليمي قبل الدولي يعطيها فرصة كبيرة سانحة لممارسة أنشطتها العدوانية، وسرقة ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية، وطرح حلول خارج حل الدولتين، وتمريرها لعرَّابها الأميركي لفرضها على الفلسطينيين عبر وسطاء عرب ومسلمين من الحلفاء في السر والعلن.
إن التهليل المبالغ فيه لما أبداه الفرقاء الفلسطينيون من مرونة تدفعها الحاجة أولا، وغياب الحليف القريب الذي يقي حركة حماس من الضغوط الخارجية، ويفتح لقطاع غزة آفاق الحياة في أبسط قواعدها، والمخاوف الفتحاوية من تمرير وسطاء المنطقة لرموز مشكوك في ولائها للقضية، ومعروف عنها قربها من الكيان الصهيوني الغاصب، دفعت الحركتين إلى ما يمكننا وصفه بأنه مجرد تهدئة، يتنازل كل منهما فيها عن بعض مطالبه بقدر قوته وثباته على الأرض، ولا أريد أن أكون متشائما عندما أتحدث عن أن تلك الخطوات لن تعالج الانقسام الفلسطيني بشكل قطعي، ولعل تصريحات الرئيس عباس عن توحيد السلاح في يد السلطة، ورد هنية عليه يعبر عن نموذج لعمق الهوة الخلافية بين الفرقاء الفلسطينيين.
تلك الهوة التي تشكلت منذ أوسلو وما فرضه من طريق سياسي يفرض التزامات تخل بمبدأ حق الفلسطينيين في تبني خيارات المقاومة المسلحة بشتى أنواعها، لدرجة جعلت الرئيس الفلسطيني مضطرا أن يعلن أمام الأمم المتحدة عن رفضه لكافة أنواع الإرهاب الدولي والإقليمي و(المحلي)، وهنا كان يقصد بوضوح تمرير رسالة لحلفاء الكيان الغاصب برفضه مبدأ المقاومة المسلحة مطلقا، ويتعارض هذا بالطبع مع توجه حركة حماس التي تسعى إلى استمداد شرعيتها عبر قبولها وترحيبها بمبدأ المقاومة المسلحة، رغم أنها كانت تطاردها في أوقات الهدن المتتالية مع كيان الاحتلال الغاصب.
المقصود هنا أن الفلسطينيين على اختلاف ألوان طيفهم، وبرغم توحدهم جميعا حول غاية واحدة لن يحيد عنها أحدهم ولا يستطيع الرئيس عباس أو هنية أو غيرهم فرض تنازلات على الشعب الفلسطيني تتعلق بثوابتهم الوطنية من قيام دولة عاصمتها القدس وتحرير الأسرى وحق العودة، وغيرها، لكنهم أمام معضلة وجودية تتعلق بتوحيد استراتيجية المقاومة والتوافق على آليات تحد من رغبة البعض في استخدام سلاح المقاومة في وقت خاطئ بهدف الخروج من أزمته الداخلية، ولاتخاذ البعض الآخر عنوان السلمية للقضاء على المقاومة ومواصلة التواصل الأمني مع كيان الاحتلال.
إن بقاء القضية الفلسطينية أضحى ليس مرهونا بالعمق العربي كما كان قديما، فالعمق العربي جزء كبير منه يسعى لصفقة كبيرة مع ترامب ومن خلفه المحتل الصهيوني الغاصب، ولا يستطيع الصمود وفق شرعية الحق وحدها، بالإضافة إلى أن سلاح المقاومة وإن كان يمثل مخاوف للمحتل، لكنه لا يستطيع الحسم، كما يمثل هاجسا حقيقيا لشركاء الوطن من الفلسطينيين، فالواجب هنا العودة لما قبل التحركات الأحادية، والتوافق على استراتيجية وطنية تفتح الآفاق لكافة الخيارات الفلسطينية، وتحدد أوقات تلك الخيارات، ليكون قرار استخدام الخيار المسلح وطنيا شاملا وقت استخدامه، وألا يتم القضاء عليه في وقت تصدي الدبلوماسية والمطاردة القانونية والدبلوماسية لجرائم الكيان الإسرائيلي الإرهابي.