الإنصاف

1

 
 
“كفاك من عقلك ما أوضح لك غيك” الإنصاف “مصدرها أنصف، وإنصاف المظلومين يستفتي حقه، وهذا ما يعني إزالة الظلم عنه وتأتي بمعنى العدل”، واصطلاحا “أن يتم إعطاء الشخص لغيره من الحق من نفسه، وهذا يكون مثل الذي تحب أن تأخذه منه إذا كنت مكانه ويكون هذا بالأقوال والأفعال…”. ولا يزين المرء ويرفع من قيمته الإنسانية، ويشعره باحترامه أمام نفسه والآخرين، متبوِّئًا الدرجات العُلا كمثل الإنصاف، الذي يؤمن به الكثيرون كقيمة أخلاقية أساسية ويمارسونه واقعا يجمل سلوكهم، ويرتقي بمستوى أسلوبهم مع مختلف الأطراف التي يتشاركون ويقيمون علاقات وجودية معها في هذا الفضاء الواسع من البشر كانوا، أم المخلوقات الأخرى وعناصر الطبيعة وموجوداتها ومكوناتها الذين اقتضت ظروف الحياة ومتطلباتها اليومية وأوضاعها التعامل والتنسيق معهم في نسيج متكامل من الأدوار والاختصاصات متناسق في الجمال والإبداع. وفي تبني الإنصاف خصيصة وطريقة نتبادلها مع الأطراف أيا كان انتماؤها، وشعارا نؤمن به، وسلوكا نمارسه، الخير العميم والصلاح العظيم، وذلك بمعنى أن ينصف بعضنا بعضا في الحقوق والمعاملات والحوارات والنقاشات، أن نعامل الآخر ونرضى له ونحترمه بذات القدر والمستوى الذي نريده ونتطلع إليه منه، أن نسلم له الأمر ونقر له بالحق ونعترف له بالخطأ والذنب والتقصير والزلل… عندما تتكشف وتظهر وتتبين لنا الحقائق ساطعة على مرايا المشاعر والضمائر والدواخل التي يقودها الإنصاف ويدفع بها إلى الإعلان والبوح، فيما يغطيها ويخفيها ويخبئها الظلم والإجحاف والجور أكثر فأكثر بضغط وتأثير من الهوى والمكابرة والحسد وطغيان المصالح الشخصية والتعصب… وفي موقف عصيب كهذا تشرق أو تعتم حقيقة الإنسان وتتجلى خصيصته وماهيته، فالكفة التي سينتصر لها سوف تحسم أمره وتصنفه في أي الطريقين ارتضى لنفسه أن تسلك وتتجه وتكون. والإنصاف كقيمة أو خصيصة إنسانية عالية القدر ويكون لها تأثيرها على المثل والمبادئ الأخلاقية الأخرى إيجابا أو سلبا، فالشخص المنصف سيكون دون شك مصلحا محبا للخير كريما متفاعلا في خدمة مجتمعه، ومن يكابر ويعاند ويأبى أن ينصف الآخرين فلا نتوقع منه خيرا ولا مروءة ولا معروفا، وتنمية صفة الإنصاف في الناس تتم من خلال التربية ووجود النموذج في الأسرة أو البيئة ومناهج التربية والتوعية والاعتياد، وتوفر أساسات ودعامات الحكم الرشيد وسيادة القانون والعدالة في المجتمع… فـ”الإنصاف خلق عزيز يقتضي أن تنزل الآخرين منزلة نفسك في الموقف”. ومن الإنصاف “أن تقبل ما لدى خصمك من الحق والصواب حتى لو كان فاسقا أو مبتدعا أو كافرا”. فالإنسان الذي يعترف بأخطائه ويقر بعيوبه دون تردد أو خجل، ويعيد إلى الناس حقوقهم المعنوية والمادية هو في الحقيقة إنسان منصف، ومن يراعي مشاعر الآخر فتتجلى في محياه الابتسامة وتتقدمه البشاشة ويعلي من قيمة الإنسان ويقدر الحياة ويقدم العون والمساعدة، ويأخذ بيد المحتاج، ويحرص على عدم ترويع من هم أقل منه مالا ومنصبا ومكانة وعلما هو إنسان منصف، ومن يسعى مبادرا مجتهدا إلى تقييم كل كلمة يتفوه بها، وإخضاع كل عمل يؤديه ومعاملة ينجزها ومال يكتسبه وخواطر تتقاذفه وقرارات يتخذها… فيراجع نفسه ويحترز ويطمئن إلى أن كل ما يقوم به يلامس حواشي الصواب على أقل تقدير إن لم يكن يتربع في مركزه ويسير وفق المنظومة الأخلاقية والقيم الإنسانية النبيلة وعلى هدي من النظام والقانون، كل إنسان يضع هذه الحسابات والتقديرات في نفسه ونصب عينيه مع كل خطوة يخطوها هو إنسان منصف وعادل دون شك ويستحق الاحترام. أما الإنسان الذي يستولي على أشياء وممتلكات الآخرين بالقوة والخداع وبدون وجه حق فيستغل ضعفهم وغفلتهم من أجل مصالحه الشخصية ويرفع من قيمة نفسه بدون مناسبة وبدون سبب إلا علوا وتكبرا وتعصبا، ويرفض إعادة الحقوق إلى أصحابها أو إنصاف الآخر في ماله ونفسه وفكره حتى بعد أن يتبين له الحق ساطعا لا غبار عليه، ويطلق لسانه لإظهار وتضخيم أخطاء غيره ويتعامى أو يتغافل في الوقت ذاته عن فضائل الناس حتى وإن كانوا أهلا للفضل، هو إنسان مجحف، بعيد كل البعد عن معاني الإنصاف وقيمته وعن منهج العدل وروحه. إن الهدي السماوي والكتب المقدسة ودعوة الأنبياء والرسل وجهود المخلصين من المفكرين وأهل الحكمة وأولي الرشد جميعها اجتمعت على كلمة سواء تعني في مجملها الإنصاف، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه”، فما تحبه لنفسك يقتضي الإنصاف أن تحبه لغيرك، وما تكرهه لنفسك يقتضي الإنصاف أيضا أن تكرهه للآخرين، وصياغة القوانين وإصدار التشريعات تهدف في جوهرها وغاياتها إلى تحقيق العدل بين الناس أيا كانت مشاربهم وروابطهم الاجتماعية وانتماءاتهم الدينية والعرقية باعتبار أن العدل “روح وجوهر القانون” وهو في معناه وجوهره الإنصاف أي “إعطاء كل ذي حق حقه”، فإذا تجرد القانون من العدل وأنف الناس مسلك الإنصاف أصبحت الحياة عقيمة والروابط والعلاقات بينهم عسيرة وثقيلة. والشاعر يقول في هذا المعنى: “إذا كنت لم تنصف أخاك وجدته * على طرف الهجران إن كان يعقل”. ومعاملة الناس بإنصاف يحفزهم بشكل أفضل على العطاء والإنتاج والمشاركة الإيجابية بحسب نظرية الإنصاف التي أسسها آدمز، وبالعكس فإن عدم الإنصاف في المعاملة يؤدي إلى التثبيط والإحباط والسلبية، والإنصاف هنا يعني معاملة الجميع بشكل عادل، ويعني إظهار الحق وإثباته، والإنسان المنصف لا يمل من الدعوة إلى إنصاف الآخرين الذين تعرضوا إلى الظلم. ولا يعني الإنصاف أن يتبنى المرء آراء الآخرين ويسير وفق أهوائهم ويأخذ أقوالهم بدون أن يخضعها إلى العقل وإلى الرأي والمنطق، أي قبل أن يتبين صحتها ويدرك حقيقتها ويفهم دوافعها. ومن علامات الإنصاف الإتيان بالأعمال الحسنة والتصرفات الواعية والأفكار النيرة والسلوكيات الراقية التي تخدم المجتمع وتساعد على نمو العلاقات وعلى بناء أواصر التعاون وعلى صياغة ثقافة تقوم على الحوار البناء، وللإنصاف درجات وأنواع وأعلى درجات الإنصاف إنصاف الإنسان نفسه من نفسه وذلك بأن يعرف قدرها فلا يعليها فوق ذلك القدر فيضعها فوق ما تستحق، ولا ينزلها كذلك دون ما هي أهل له، ومتى ما أنصف المرء نفسه واستطاع تقييم حاله أصبح مؤهلا لإنصاف الآخرين قادرا على تحري الموضوعية، بعد أن تجرد من الجهل القاتل والتعصب المقيت ومن الهوى والمصالح الشخصية، وعندما يحرص المرء على إنصاف الخصم فإنه يصبح أهلا للثقة وقد بلغ الذروة في الموضوعية. ومن آداب الإنصاف عدم التسرع في إطلاق الأحكام والحرص على تحري الحقيقة وحمل كلام الآخر على أحسن وجوهه وتجنب الحديث عن سيئاته مقابل تناسي حسناته. إن للإنصاف وجوها مشرقة وآثارا طيبة على الإنسان إنها دعوة للجميع، أنصفوا أنفسكم واعملوا على إنصاف الآخرين لكي تصبح الحياة مشرقة وجميلة ومسالمة، وكما قال مصطفى السباعي بأنه لا “سبيل إلى إنصاف مخالفك في الرأي إلا أن تستمع إليه وترى ما عنده”، ويقول الشاعر العربي: “آخ الكرام المنصفين وصلهم * واقطع مودة كل من لا ينصف”.
 
سعود بن علي الحارثي

التعليقات معطلة.