رقية بنت إسماعيل الظاهرية:
الأطباء بإنسانيتهم كوكبة مضيئة من الفكر والخلق، ومنذُ الأزل للطبيب عند العرب منزلة لا تنازع، وأنفة عظيمة لا تمس، فهو صاحب الكلمة الطيبة والوجه الباسم والشخصية الملائكية. وقد ذكره الرازي “المتطبب خادم الروح”، ما أن تخبر عن نفسك بأنك طبيب يرد عليك بسؤال آخر: طبيب في أي تخصص؟ ليكمل السائل الحديث وكأنه يعرفك ليشتكي لك بانسجام مما يعاني. وإن كنت في الجامع تراجعت الصفوف ليجعلوك تصف بالأمام، وإذا كنت في طابور الجمعية يفسحون لك المجال للتقدم في الصف، وكل هذا إجلالا وإكبارا لكونك طبيبا!! أيها الطبيب لقد اخترت أنبل المهن، واجتزت من الصعب ما يبشر بسعة أفق عالمك وصمود روحك بعد رحلة عناء استحققت بجدارة ارتداء المعطف الأبيض الذي أكسبك سمو هذه المهنة المتوجة بحسن الخلق. ولكن تذكر أن علو شأنك مرهون بتواضعك.. فمن المؤسف أني رأيت من بعض الأطباء كلما تقدم بالشهادة والخبرة زاد تعاليا وتكبرا، عليَّ أن أنبهك بأن تضع رجليك على كوكب الأرض، ومهما علونا كأطباء نحن جئنا لخدمة الناس ولمنفعة الأمة، ولم نأتِ لنكون أسيادا عليهم، لقول الطنطاوي ـ رحمه الله “واعلموا أن مهمتكم ليس ورقة تحملونها بل مهمتكم أمة تحيونها”. إنما الغرور جهل بمكارم الأخلاق، وقد تكون حصلت تعليمك في أعرق جامعات الدنيا، وحاملا لأعلى الشهادات، ولكنك قد تكون ضحلًا لا تملك من حسن الخُلُق ومهارة التعامل إلا قليلا، فلتأخذ برهة في التأمل فيما أتاك الله من علم وقيمة ومقادير قابلة للتغير يجب أن تبلغ من الإيمان ما يعينك على قضاء حوائج الناس، ومشاركتهم أحداثهم بين المآسي والمسرات. عالمنا يحوي الكثير من تصادم الأفكار وتناقض القناعات، لا أنسى أحد كبار الأطباء كان طبيبا حاذقا ذا نفوذ وسلطة وهو يفحص مريضه الذي يشتكي من قدميه لينحني للأرض ليساعد مريضه على ارتداء حذائه، ويملك من اللطافة ما يجعله يلقي التحية على صغار الموظفين قبل كبارهم يتحدث ببساطة وتواضع، ويملك من سكون النفس ما يطمئن قلوب الناس. وفي الجانب الآخر أرى طبيبة تزهو بنفسها وتعامل الآخرين بفوقية وكأنها من المعجزات التي حصلت واستثناء في عالم الطب إحساس خليط بين الفوقية، تسير بين الأقسام كأنها قطعة نادرة من السماء أشبه بالآلهة وكأنها تنتقم لنفسها من سواد البدايات، هذا لا يعد خسارة للأوطان التي استثمرت في هؤلاء، بل يعد خسارة للإنسان بأن من يحمل العلم ولا يحمل خلقا لا يستطيع نفع غيره بسبب خراقة طبعه وشوائب نفسه، ذكرتني بأشجار الغابات الطويلة فوق أنها أشجار غير مثمرة لا تخدم إلا نفسها، وتبخل حتى بالظل على مرتادي الطريق. لا أعلم كيف لطبيب أن يمجد عقليته بغطرسة ويصنف نفسه نوعا خارقا من البشر وينسى سمو القيم والمثل الطبية العليا، نحن نتعامل مع أُناس مستضعفة هم وحدهم من يعرفون ملامح الوجع، ويرسمون لوحات التحمل والصبر، غمار معركة الطب وإنقاذ الأرواح بحاجة لفارس مغوار يمتشق سيف الفضائل ورحابة الأخلاق، فنحن نعالج المريض لا المرض، الدواء يعالج المرض لكن الطبيب يعتني بالروح ويسكن ما أخافها ليهدأ المريض من انكساره ويطمئنه. الطب علم مفعم بالرأفة والأمل، يقوم على المهارات المعرفية المغلفة بالرحمة والحدس والاهتمام، من خلال سنوات تجربتي كطبيبة تأملت الأطباء الناجحين لم يكونوا الأكثر علمًا وحملة للشهادات؟!! بل أكثرهم رحمه واهتماما. إنسانية البشر بأخلاقهم هي انعكاسات لما في نفوسهم شعور العظمة والفوقية غير مقبول في جميع المهن، وهناك فرق بينها وبين الثقة بالنفس والاعتداد بمضمونها، وتذكروا سيأتي اليوم الذي ستوقفنا فيه صافرة القطار عند المحطات، ويجب أن نتوقف لنترك مقاعدنا ونمشي إلى جوار الزمن ليمر العمر بلحظة بعد أن يهترئ العظم، وأن نترجل بشجاعة ونترك أثرا طيبا.
طبيبة مختصة في قانون وأخلاقيات الطب