ابن إياس و”الشهادة المجروحة” عن الاحتلال العثماني لمصر

1

وليد فكريكاتب

وباحث في مجال التاريخ

كلما استشهدنا على وحشية وهمجية العثمانيين في غزوهم مصر بشهادة المؤرخ المصري ابن إياس الذي عاصر تلك الفاجعة، هب العثمانيون الجدد يجعجعون بأن “ابن إياس هذا شهادته مجروحة لأنه من فلول المماليك”.

إذن فعلى حسب قراءتهم المعتلة للتاريخ، علينا أن نبحث عن شاهد عيان غير ذلك المنتمي لفئة المجني عليهم في تلك الجريمة العثمانية، حتى لا تكون شهادته مجروحة!

هل تدركون معنى هذا الكلام؟ معناه ببساطة أن نمحو من كتب التاريخ كل شهادة دونها معاصر من أهل بلد لجريمة وقعت بحق وطنه من محتل أجنبي، لأن هذا الشاهد/المجني عليه متضرر من تلك الجريمة، وبالتالي فإنه غير أهل لأن نعتد بما سجل.

على هذا الأساس فلنتجاهل ما كتب يوحنا النقيوسي عن الاحتلال البيزنطي لمصر، وما قاله ابن الأثير عن اجتياح المغول للمشرق الإسلامي، وشهادة النويري السكندري عن غزو الفرنجة للإسكندرية في منتصف القرن الرابع عشر، وما سجل الجبرتي عن الحملة الفرنسية، وما كتب عبد الرحمن الرافعي عن الاحتلال البريطاني، وغيرهم، ليستريح هؤلاء الذين يرددون كببغاوات حمقاء أن شهادة ابن إياس مجروحة.

وماذا يكون ردهم لو طلبنا منهم تنحية آراء المعاصرين من العثمانيين لحروب الدولة العثمانية مع روسيا، وتقدم الروس في بعضها من إسطنبول نفسها، باعتبار أن شهادتهم مجروحة؟

بل أن قولهم عن ابن إياس أنه “من فلول المماليك” إنما ينم عن جهل مريع بطبيعة وضعه في الدولة المملوكية والمجتمع المصري.

فابن إياس لم يكن مملوكيا، وإنما كان من فئة “أولاد الناس”، و”ابن الناس” هو المنحدر من أسلاف مماليك – أبوه أو جده – ممن مسهم الرق سابقا وجُلبوا صغارا إلى مصر حيث نشؤوا وتمصروا، بينما ولد هو حرا ولم يمسه الرق.

والفارق واضح بينه وبين المملوك، صحيح أن من بين أولاد الناس من تولى منصبا رسميا أو حتى بلغ كرسي السلطنة (لو كان من فئة أبناء السلاطين)، لكن الفئة كلها بشكل عام كانت متنوعة من حيث المركزين الاجتماعي والمادي، فمنهم الموظف الرسمي ومنهم العالم والفقيه والمؤرخ ومنهم الجندي بل ومنهم الحرفي والتاجر، فلا يمكن إذن أن نعتبر كل أولاد الناس – ولا حتى معظمهم – من طبقة المماليك.

وإن كان القائل عن ابن إياس أنه “من فلول المماليك” يعني أنه من الموالين لأصحاب السلطة، فهذا دليل جهل إضافي، فلو كلف نفسه عناء القراءة عن هذا الرجل، أو قراءة كتابه “بدائع الزهور في وقائع الدهور” للاحظ أنه كان لا يحابي عظيما ولا يجامل سلطانا، بل على العكس كان شديد الحدة على أهل السلطة في نقده لهم أو تناوله بعض ما رآه ظلما أو فسادا من أعمالهم. وانظر قسوته وغلظته على السلطان قنصوة الغوري في سياساته وأعماله، بل وهجاؤه المقذع له ببعض أبيات الشعر التي ضمنها كتابه.

وهو لم يكن ممن “يتحشرون في أصحاب المناصب” لينالوا الحظوة، فلقد عاصر عدة سلاطين مثل قايتباي وابنه وجنبلاط وطومان باي الأول والغوري وطومان باي الثاني، ولم نجد ما يشير ولو تلميحا لأنه قد سعى لنيل رضاهم لغرض المنفعة، ولو كان كذلك أكان يهجو المحتل سليم الأول وصنيعته الأمير خاير بك، وهما في ذروة انتصارهما، أم كان ليسارع على الانبطاح عند أعتابهما لينال من العطف جانبا؟

ثم أن ابن إياس كان من أبرز أهل عصره في كتابة ما نصفه بـ”التاريخ من أسفل”، بمعنى أنه كان يصب جل اهتمامه على أحوال العامة وينظر للأمور من زاويتهم وينقل رؤيتهم للأحداث والوقائع، فكيف يقال عن مثله أنه كان محابيا لأهل السلطة؟

هذا فضلا عن أن عصر ابن إياس كان بحق عصر المؤرخين الكبار، مثل ابن تغري بردي وابن حجر العسقلاني والسيوطي، الذي تتلمذ ابن إياس على يديه، وابن أجا الحلبي والجوهري الصيرفي وابن إياس نفسه.

فمن مساخر زماننا أن يتهم بعض أذناب زمان العثمانيين المتخلف علميا أحد هؤلاء المؤرخين القامات بأن شهادته مجروحة، لكنهم بين جاهل يردد قولا جاهزا حفظه على عجل، أو مدلس مأجور يتلاعب بالمنطق والعقل ليرضي أسياده من المهووسين بالحلم الهزلي لإحياء دولة آل عثملن البائدة!

التعليقات معطلة.