إيران وفصل جديد من تحدي المجتمع الدولي

1

لا تَزال إيران تُصر على تبني منهج المُناكفة والعناد في التعامل مع القضايا التي تهدد السلم والأمن الدوليين، فتارة تُهدد بإغلاق مضيق هرمز أمام الملاحة العالمية، وكأن المضيق بازار إيراني، وتارة أخرى تستغل الحصانات الدبلوماسية التي يَتدثّر بها عناصر استخباراتها لارتكاب جرائم إرهابية في أوروبا، وليس آخرا مُجاهرتها بإصدار برلمانها تشريعا داخليا يَظن الملالي أنه يُحل إيران من التزاماتها التعاهدية الدولية

أصدر البرلمان الإيراني أخيرا مشروع قانون من شأنه وقف عمليات التفتيش التي تقوم بها الأمم المتحدة لمنشآت البلاد النووية، ويطالب الحكومة بتكثيف عمليات تخصيب اليورانيوم، ويُمثل التصويت على مناقشة مشروع القانون، الذي يتطلب اجتياز عدة مراحل أخرى قبل أن يصبح قانونا، استعراضا للتحدي الإيراني بعد مقتل العالم النووي الإيراني، محسن فخري زادة الشهر الماضي، وسيمنح مشروع القانون الدول الأوروبية ثلاثة أشهر لتخفيف العقوبات على قطاع النفط والغاز الرئيس في إيران، والسماح لها بالوصول إلى النظام المصرفي العالمي، ويطالب مشروع القانون السلطات باستئناف تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة، وهي نسبة أقل من الحد المطلوب لاستخدامه في صناعة الأسلحة النووية، لكنها أعلى من تلك المطلوبة للاستخدامات المدنية.

لم يستغرق الأمر يوما واحدا حيث اعتمد مجلس صيانة الدستور في إيران ذلك القانون الذي يُلزم الحكومة بوقف تفتيش الأمم المتحدة لمواقعها النووية، وزيادة تخصيب اليورانيوم على الحد المنصوص عليه في الاتفاق النووي لعام 2015، إذا لم تُخفَف العقوبات عن الجمهورية الإيرانية خلال شهر، وانضم المجلس الأعلى للأمن  القومي الإيراني لقافلة الفوضى  الإيرانية، وأيّد التشريع الإيراني الذي انتهك جميع المبادئ والقواعد القانونية الدولية التي تضبط علاقة  الدول بأشخاص القانون الدولي الآخرين سواء كان هؤلاء الأشخاصُ الاعتباريون دولا  ذات  سيادة أو كانوا منظمات دولية، ومنها بالطبع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا.

تَعلو مبادئ وقواعد القانون الدولي على التشريعات الداخلية للدول، وهذه المُسَلّمة صارت راسخة مستقرة منذ قرنين من الزمان وتحديدا منذ  صدور حُكم محكمة  التحكيم الدولية  في قضية “سفينة  ألباما” عام 1872، حيث قضت محكمة  التحكيم بأن قواعد الحياد هي قواعد عُرفية دولية لاشك فيها، وواجبة الاحترام من الدول كافة، وأن إغفال بريطانيا سن  تشريع داخلي يحتوي على قواعد الحياد الدولية لا يعفيها من مسؤولياتها لخرقها هذه  القواعد  الدولية، بل إن بريطانيا مسؤولة من حيث تقصيرُها عن إغفال سَن مثل هذا القانون الذي يجب أن يراعي ما هو معروف من قواعد الحياد الدولية، ثم ألزمت المحكمة بريطانيا بدفع التعويض المناسب لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، واستجابت بريطانيا لذلك القرار.

شَكّل ذلك الحكم، في حقيقة الأمر، مرجعا أكيدا لما صدر عن هيئة قضائية دولية، ومحطة قانونية مرجعية استندت إليها جميع الأعمال  اللاحقة، فِقهية كانت أم قضائية، في تَقديمها لأحكام القانون الدولي على القوانين الوطنية، فالمحكمة استطاعت أن تَعبُر بهذا المبدأ من النطاق الفقهي إلى الممارسة العملية على  مستوى القانون الدولي، وكانت المحكمة  الدائمة  للعدل الدولي؛ الجهاز  القضائي الرئيس لعصبة الأمم الهيئة القضائية الدولية الرائدة في هذا الشأن، فقد أصدرت هذه الهيئة  القضائية الدولية العديد من الأحكام التي رسّخت مبدأ “سمو القانون الدولي على القانون الوطني للدول”.

تزخر المحكمة الدولية الدائمة للعدل بأحكام نستطيع أن نزعم أنها “مُنيرة ” للجميع حتى للظلمة البهيمة التي غَلّفت وغَفّلت ما صدر أخيرا عن  البرلمان الإيراني، فقد قضت المحكمة في عام 1923 بأن: ” أمر الحياد  الصادر عن الدولة بموجب إرادتها  المنفردة لا يمكن أن يسود على أحكام معاهدة السلام، وأن ألمانيا لا تستطيع أن تعارض الالتزامات التي أخذتها على عاتقها بموجب المادة 380 من معاهدة فرساي، وتعلن عن قواعد حيادها في الحرب  الروسية البولندية، لكن تحت شرط احترام الالتزامات التعاقدية التي ارتبطت بها في فرساي ولا تمس بها “، ولاحقا، وبعد ثلاثة أعوام من الحكم  المتقدم قضت  المحكمة في عام 1926  بعبارات ولا أروع بل وتجاه حالة تكاد تكون صِنوا للحالة الإيرانية، حيث قررت المحكمة أن القانون البولندي المؤرخ في 14 يوليو 1920، وجملة القوانين الوطنية البولندية من وجهة نظر القانون الدولي هي مجرد وقائع تعبر عن إرادة ونشاط الدول، وتجلت ذلك أكثر في توصيف المحكمة للأحكام القضائية  الداخلية التي تصدر بـ”ـالمخالفة للقانون الدولي”، وقد قررت المحكمة  في عام 1928 بأن: “حكما قضائيا وطنيا قد نقض بطريق غير مباشر حكما أصدرته محكمة دولية وهو أمر مستحيل”.

حَسم القضاء الدولي، وتدرك إيران ذلك إدراك اليقين، مسألة سمو القانون الدولي على تشريعات الدول الداخلية وفي  الصدارة منها دساتير هذه  الدول، فقد قررت محكمة العدل  الدولية في عام 1932: ” لا يجوز أن تستشهد دولة تجاه دولة أخرى بدستورها من أجل  التنصل من الالتزامات المترتبة عليها بموجب القانون الدولي والمعاهدات السارية “، كما أكدت  المحكمة في عام 1936: ” أن  المعاهدات المبرمة إبراما صحيحا هي مصدر من مصادر القانون داخل  الدولة المتعاقدة، ولها قوة القانون الملزمة داخل كل من هذه  الدول وعلى  المستوى الدولي، بل وحتى في  الأحوال التي تتعارض فيها أحكام هذه المعاهدة مع التشريعات الوطنية السابقة أو  اللاحقة على إبرامها “.

ما سلف بيانه من مبادئ قانونية دولية أقرتها المحكمة الدائمة للعدل الدولية لا يعكس توجها منعزلا في القانون الدولي فقهًا وقضاء، بل امتد ذلك التوجيه لجميع الهيئات القضائية ومنها محكمة العدل الدولية ومحكمة العدل الأوروبية، ولا يتسع المقام لتسليط الضوء على عشرات الأحكام القضائية الدولية إضافة إلى الآراء الاستشارية التي صدرت عن كثير من الهيئات القضائية الدولية في هذا الصدد، لكن الأهم في ذلك السياق الإشارة إلى الباعث من مبدأ “سمو القانون الدولي على القانون الوطني للدول”.

لا مِرية في أن المعاهدة الدولية تُعد نظاما قانونيا عاليا يتفوق ويعلو على جميع الدول المتعاقدة، ولذلك فهي تعلو على القوانين الوطنية على رأسها الدستور. فالمعاهدة هي التي تنقض التشريعات الوطنية للدول، والعكس مستحيل. وبحسب قواعد القانون الدولي، فإن   المعاهدة لا يمكنها أن تفقد قوتها الإلزامية إلا بموجب معاهدة أخرى، ولكن لا يمكن إنهاؤها بموجب فعل انفرادي صادر عن دولة طرف فيها، وبموجب قانونها الوطني. فإذا صدر قانون – حتى لو كان الدستورَ نفسه – متعارضٌ مع معاهدة ما، فإنه ينعت بغير  النظامي، وهو، ولا شك متعارض مع المبدأ الدولي “العقد شريعة المتعاقدين”

” Pacta  sunt servanda  ” .

صفوة القول، لن يزيد الغُلو الإيراني في تحدي القانون والمجتمع الدوليين إلا المعاناة الإنسانية للشعب الإيراني المكلوم بزمرته السياسية التي ما فتئت تعاند وتتحدى وتقامر دوما بمقدرات البلاد ومصائر العباد.

التعليقات معطلة.