حيدر نزار السيد سلمان
يتفق عددٌ من المفكرين على فكرة أن الديمقراطية لا يمكن أن تنجح وتتأسس بثبات إلا في مجتمع صناعي وحاضنة اقتصادية متقدّمة وبيئة وامتداد ثقافي منغرس في الوعي المجتمعي، وبالمقابل هناك طروحات فكرية تدور حول فكرة الاستبداد العادل كحلّ لمشكلات الحكم في عالم الشرق. وقد طرح محمد عبده هذه الفكرة وروج لها بدعم من جمال الدين الأفغاني الباحث الثاني عن حلول لمعضلة الشرق السياسية والحضارية.
في العالم الشرقي يمكن لنا إيجاد نماذج تطبيقية صريحة لفكرة المستبدّ العادل مثلها كل من: “مصطفى كمال أتاتورك” في تركيا الحديثة، و”لي كوان” في سنغافورة ومحاضر بن محمد (مهاتير محمّد) في ماليزيا. وقد تحقق المراد في هذه البلدان الثلاث: نهوض اقتصادي وتعليمي وازدهار اجتماعي ودول مستقرّة وقويّة وحريات عامّة، ولما كان العراق جزءاً من هذا العالم الشرقي ويقترب من هذه الدول كثيراً بينما يبتعد كثيراً عن العالم الغربي، فإن المقاربة بينه وبين القريب من عالمه تصبح مسألة أكثر جدية ونجاحاً واستلهاماً للتجارب.
في الوقت الذي يعيش مثقفون وباحثون تحت تأثير رومانسية الثقافة الغربية ويتغنون بديمقراطية صعبة التحقق في مجتمعات وصف المؤرخ برنار لويس ثقافتها القديمة المتجذرة ؛ حاسمة في سلوكياتها ونُظمها السياسية، الأمر نفسه الذي أكده المفكر رينان في مناظراته مع جمال الدين الأفغاني في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي تبدو مسألة البحث عن حل للحاضر ضرورية، فالطوباوية التي تعيشها النخب الثقافية المتأثرة فكراً -لا سلوكاً- بالثقافة الغربية ومنها الديمقراطية، هي هلاك تدريجي لدول ومجتمعات تُستغلّ فيها الديمقراطية غير المتجذرة سلوكاً وثقافة من قبل قوى ما قبل الدول وبثقافة نكوصية لبلوغ السلطة، ثم الالتفاف على آلياتها ونهجها ودعائمها دون رد فعل شعبي رافض أو مؤسساتي يقف حائلاً دون هذا التفرّد. وحينها يقع المجتمعُ في ظلّ ديكتاتورية جاهلة وتخلّف عام وانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، فيما تزيد القوى المسيطرة من ترسيخ أقدامها ونشر ثقافتها وفرض هيمنتها، إذ لا يظهر الانقلاب على الديمقراطية كأمر جلل كون الفكرة لم تترسخ اجتماعياً وتصبح ثقافة عامة.
تبدو الحاجة لاستبداد مقنن ومتنور وعادل ضرورة تاريخية مرحلية أولاً وكخطوة استباقية ثانياً، وفكرة ممكنة التحقق ثالثاً بحكم التجارب المماثلة. غير أن ذلك يستدعي نخبة فكرية وصناع ثقافة جماهيرية تمارس دوراً تنويرياً سلوكياً يستهدف خلق مجتمع جديد من خلال تلاقي قوتين محقتين: الأولى سلطوية قاهرة لكنها عادلة، والثانية فكرية ثقافية تتمتع بخطاب سهل ومرن بلغة بعيدة عن الغموض والطلاسم والفوقية وتعالِ مهووس بالانفعال والغرور والمدرسية المقيتة، وقد تخلق هذه النخب نفسها المستبد العادل المتعلّم، إذا لم تخلقه الظروف والأزمات والوقائع.
يمكن للنخبة وللمثقفين الواقعيين والبرغماتيين أن يصيغوا الثقافة الديمقراطية المجتمعية بآليات استعملها الغربُ والشَّرقُ على حد سواء، وأهمها المدرسة والتعليم والاعلام والصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي والحضور الاجتماعي والسلوك الشخصي، إذ يمكن من خلالها وغيرها سدّ الفجوة الفكرية بين نخبة عاملة ومجتمع يشكل خميرة لفعلها. أما المخاوف من الاستبداد العادل المتعلّم فهي مرض ثقافي يصيب نخباً تفترق بمسافات عن الواقع والتاريخ والثقافة والقوى الفاعلة اجتماعياً. كما لا يمكن فرض ديمقراطية دون تربة صالحة فإن من الضروري توفير هذه التربة وهي مهام المستبد العادل المتعلّم بالتحالف والتعاون مع نخب مفكرة وواعية لوظيفتها التاريخية، ومن خلال الزمن التاريخي المقاد من هذا التحالف يمكن أن تتجذر الديمقراطية اجتماعياً وتظهر كأساس ثقافي لا يمكن التنازل عنه والدفاع المستميت عن قيمه. ولعلَّ الزمن الذي نعيشه يوفر امكانيات النجاح، فكلّ شيء يفتح الطريقَ لحداثة حقيقية وليس مظهرية قشرية تطيح بفشلها بالدولة وطموحات الناس بالكرامة والازدهار والتقدم.