25 مارس 2021 مـ رقم العدد [15458]
فـــؤاد مطـــر
صحافيّ وكاتب ومؤلّف لبنانيّ، خبير بالشّؤون العربيّة ولاسيّما مصر والسّودان والعراق
بات مطلب الحياد حاضراً في البال اللبناني منذ أن نادى به رئيس الطائفة المارونية البطريرك مار بشارة الراعي. ونحن هنا نستثني الجمع الذي يقلقه الأخذ بصيغة الحياد، وهؤلاء عدد من أمراء الأحزاب والتنظيمات غير اللبنانية النشأة والخارجة عن واجب الولاء الوطني، بمعنى أن الولاء أمر له صفة القداسة؛ وبذلك فإن الخروج عن الولاء للوطن هو كما الكفر بالمقدسات.وعندما نقول إن مطلب الحياد بات حاضراً لا يفارق البال اللبناني فلأن مواطني هذا الكيان انتقلوا من نظرة التأمل فيما يمكن أن يحققه الأخذ بالحياد إلى نظرة تعليق الآمال على الأخذ به. وهؤلاء ليسوا فقط الذين يجاهرون بترحيبهم بدعوة الأخذ بالحياد، وإنما أيضاً الذين لا ينطقون ترحيباً وآثروا التزام الصمت غير المريب نظراً لأن الماء في الفم تستوجب ذلك.في الظروف التي تواجه الأوطان وتأخذ منحى الاستعصاء في الحلول، يصبح الأخذ بصيغة الاستفتاء الوسيلة التي تضع الأمور في نصابها، وتحسم القيل والقال في الموضوع وتنحسر التنظيرات بمختلف مرامي قائليها لصيغة الحياد حلاً للوطن. ونحن هنا نتحدث عن الاستفتاء الوطني وليس عن الاستفتاءات التي أرادها بعض الرؤساء العرب بمثابة الغطاء الدستوري والشعبي لاستمراريتهم في المنصب الأول، وتأتي نسبة التصويت بطبيعة الحال وفق ما هو مقرر سلفاً، بدليل أن كل الاستفتاءات التي حدثت وكانت النسبة فيها تسعينية وما فوق لمصلحة الرئيس الذي طلب إجراء الاستفتاء لتغطية رغبته في البقاء في سدة الرئاسة، إنما جرت خلافاً لقواعد الاستفتاء الذي يقول فيه المواطن رأيه وبما معناه أن «لاءه» تكون كما «نَعمة» صادرة عن اقتناع مستند إلى مصلحة الوطن في المقام الأول وليس كما يرضي شراهة الرئيس إلى البقاء رئيساً لمزيد من السنوات التي في اعتقاده تحميه من عاديات نظام يأتي على جناح الإرادة الشعبية الحقيقية.ومن الجائز الافتراض رغم الضغوط النفسية والمذهبية التي ترسخت في ظل ظروف لا تترك فرصة لشرائح من بني الوطن اللبناني المكبل الإرادة وفي الوقت نفسه غياب صيغة موضوعية للمسار الوطني، كتلك الصيغة التي طرحها البطريرك الراعي، أن الاستفتاء الذي يُجرى وفق الأصول وبحضور مراقبين أممين منزَّهين عن الغرض ويضع وجودهم حداً لمن يهيمن على الصناديق ونتائجها أو يُرهب مقدماً التواقين إلى التعبير عن رأيهم الذي هو لمصلحة الأخذ بالحياد صيغة لوطن تستقر أحواله، سيوضح للمجتمع الدولي حقيقة غائبة عن أصحاب القرار فيه، وهي أن لبنان المتناثر توحده صيغة الحياد، تماماً على نحو ما يحققه الحياد في حال الأخذ به للشعب الفلسطيني عندما تقام دولة مستقلة وتكون القدس تلك العاصمة الروحية للديانات الثلاث يتبرك في زيارتها الملايين من شعوب دول العالم، عوض أن تكون وجبة ترمبية على مائدة بنيامين نتنياهو حافلة بأطباق من العنف والابتزاز، والإفساد والكراهية والتطاول على حقوق الشعوب وسيادات الأوطان. وهكذا في حال ارتأى المجتمع الدولي وكبيرته الولايات المتحدة إبدال الهداية بالتلاعب، ستشع من الشرق شمس الحياد من خلال لبنان المحايد وفلسطين المحايدة كتفاً إلى كتف مع دولة إسرائيل التي يكون المجتمع الدولي فرض عليها أن تكون الملاذ ليهود العالم وفي الجوار الآمن لمن حولهم شعوب دول المنطقة. لماذا لا يقرأ هؤلاء الليكوديون المبادرة العربية للسلام التي تنهي وتنجي وتبني وتنقذ الجميع من ضوضاء التشدد؟وثمة حقيقة من شأن الأخذ بالحياد تأمين حدوثها، وهي أنه سيكون خشبة خلاص كريمة لشرائح من اللبنانيين، ونسبتهم عالية جداً، من التزامات وانتماءات أوجبتْها ظروف سياسية وارتباطات اضطرارية، وتحالفات لأهداف سلطوية. وهذه الشرائح ينجيها الحياد وينقذها ما دامت لا تستبدل بجِلْدها جِلْداً آخر، وإنما بخطوة تطهّر النفس من أدران سياسية وتحزبية تراكمت في النفوس على مدى سنوات كانت فيها وصفة الحياد مغيَّبة وتحتاج إلى الطبيب الذي يراها علاجاً للبنان الإنسان والوطن على حد سواء، وخصوصاً في حال إجماع أهل القرار الدولي على التصريح بصوابية الفكرة والأخذ بها صيغة حل يضع لبنان في استقرار دائم وبحبوحة متزايدة، إنما بعد استفتاء شعبي. وحيث إن هذا الاستفتاء صعب التنفيذ من حيث اتخاذ قرار دستوري في شأنه نتيجة أن انتماءات الممسكين بمقاليد الحُكْم هي ضد صيغة الحياد، بعضها عبَّر عن الرفض، وبعضها الآخر يضمر إجهاضاً للفكرة، فإن قراراً أممياً في شأنه كفيل بوضع الاستفتاء موضع التنفيذ. يا ليت وثيقة الطائف بنَّدت صيغة الاستفتاء عند الضرورة إلى جانب سائر البنود، فالاستفتاء كفيل بترويض الاستعصاء.ونستحضر للمناسبة ونحن نعيد قراءة ما سبق أن حبَّره زميلنا غسان شربل على أوراق الصحف في كتاب جديد له من 396 صفحة (الإصدار الأول لدار «رياض الرئيس للنشر والكتب» بعد رحيله مأسوفاً عليه) أضاء فيه على جروح العراق الكردي والبعثي والسليماني من خلال شهادات رموز أصيبت بجراح وأثخنت بدورها آخرين بجراح، كيف أن الشعب الكردي في رحاب إقليمه المحكوم ذاتياً اعتمد ولي أمره مسعود بارزاني صيغة إجراء استفتاء على أن يكون الإقليم دولة كما حال دولة جنوب السودان عِوَض البقاء كما حاله مطْمئناً ضمناً إلى أن الإدارة الأميركية ودول أوروبا عموماً ستساعد على ذلك، ولا تترك بالتالي مجالاً للاعتراض الإردوغاني والإيراني المتناغم مع رفض الدولة العراقية لصيغة إعلان إقليم كردستان دولة مستقلة. وكثَّف مسعود بارزاني حَراكه من أجْل تحقيق مبتغاه في حين الذراع الثانية للأمل المنشود الرئيس جلال طالباني قيد العلاج الصحي الدقيق خارج العراق في ألمانيا، ولم يعد بالتالي هو رئيس جمهورية العراق التي لطالما أوجز حال هذه الرئاسة ماضياً أمام زميلنا غسان شربل بتوصيف موَّال شعري منسوب إلى العراق العربي، وهو كما ورد في كتاب «زيارات لجروح العراق» الصادر حديثاً: «لا قصب لا حصران لا عندنا بردي… فوق القهر والضيم رئيسنا كردي».جرى الاستفتاء على أفضل ما تكون عليه العملية الاستفتائية. بداية قال برلمان الإقليم نعم للاستفتاء (65 نعم من أصل 68 حضروا الجلسة) يوم الجمعة 15 سبتمبر (أيلول) 2017، ثم حدد رئيس الإقليم مسعود بارزاني يوم الاثنين 25 سبتمبر موعداً له يستتبعه في حال جاءت النتائج مشجعة إعلان الإقليم دولة مستقلة. وهي جاءت مبهرة لمصلحة صيغة الدولة بدل الإقليم 92 في المائة لصالح الاستقلال. جرى الاستفتاء بإشراف 11 كياناً سياسياً و64 مراقباً دولياً و65 مؤسسة إعلامية. منتهى الهدوء لا سلاح ولا مسلحين. لا حوادث بين بدء الاقتراع منذ الصباح وحتى السابعة مساء. نسبة الاقتراع 72 في المائة. سلفاً، قال مسعود بارزاني، إن الاستفتاء لا يعني الانفصال. هكذا قال البطريرك الراعي «الحياد لا يعني التدويل». رغم أن الاستفتاء كان لمصلحة الوعد – العهد بإعلان إقليم كردستان دولة، إلا أن المجتمع الدولي رأى أن يبقى الإقليم إقليماً كما حاله الذي أراده صدَّام حسين كياناً جزءاً من العراق. هذا الواقع باق حتى إشعار آخر. المهم أن الأكراد أرادوا بالاستفتاء الحر الانتقال من الدويلة شبه المستقرة إلى الدولة ذات الكيان كما سائر الكيانات في العالم.في حال أمكن تأمين رعاية دولية للبنان كي يُجرى الاستفتاء على الحياد، فإن ذلك لن يتحقق في ظل البرلمان الحالي، الذي هو مع لبنان المصادَر الإرادة الوطنية والقرار السيادي. ولو أن برلمان إقليم كردستان كان على شاكلة البرلمان اللبناني الحالي لما كان في الإمكان إجراء الاستفتاء وكان حلم أن يكون للأكراد دولة مستقرة مجرد سراب.