الحوار مع :البروفسورة شمس الملوك مصطفوي
يتّخذ هذا الحوار سمةً تخصّصيّةً في مقاربة الميتافيزيقا الأفلاطونيّة لجدليات الأسطورة والعقل والأخلاق. وقد دارت الأسئلة ضمن فضاءٍ نقديٍّ مقارن بين الفلسفة اليونانيّة الأولى وتداعياتها في الحقبة التي تلتها وعُرفت بفلسفة العصر الهلنستي.
جرى الحوار مع الدكتورة شمس الملوك مصطفوي، وهي أستاذة مساعدة في جامعة العلوم والتحقيقات في إيران. وقد صدر لها الكثير من الكتب والدراسات، منها: (دراسة ونقد نظرية العدالة في رسالة جمهورية أفلاطون)، و«النسبة بين الموسيقى والتربية في النظام الفلسفي لأفلاطون»، و«تمخّض الأخلاق من رحم التراجيديا؛ دفاع عن التفسير الأخلاقي لكاتارسيس الأرسطي»، و«اللاهوت الديالكتيكي». هذا بالإضافة إلى تأمّلاتها وحواراتها في موضوع الفلسفة في اليونان القديمة.
وفي ما يلي وقائع الحوار
«المحرّر»
* نبدأ أوّلاً بالسؤال عن مصطلح البايديا الذي يمثّل في اليونان القديمة تعبيرًا عن مسار تربية الإنسان وهدايته وإرشاده إلى الكمال الحقيقي، وكيف تعاملت المنظومة الأفلاطونيّة مع هذا المصطلح؟
يعود أوّل استعمال لمصطلح البايديا الإغريقي إلى قصيدة كتبها الشاعر آيسلوس. وفي رواية أخرى ورد في كتاب البايديا أنّ هذا المصطلح قد استعمل أوّلاً بمعنى تربية الطفل، ثمّ اتّسع معناه بالتدريج؛ وأخذ يُستعمل في عصر أفلاطون بمعنى تربية الإنسان على المستوى الروحي والجسدي. ويجب القول: إنّ من بين أهمّ عناصر تبلور الأخلاق والتربية في اليونان القديمة هي الموسيقى. وكانت هذه الكلمة تستعمل في قبال الجمناستك. وكانت الغاية من الجمناستك تربية الجسم، بينما كانت الغاية من الموسيقى تربية الرّوح. وكانت هذه الكلمة تدلّ على معنيين في عرض واحد، وهما أوّلاً: الشعر والرقص وفن الألحان؛ بمعنى الموسيقى والغناء الذي يتّصل ببعضه من خلال أنغام خاصّة، وثانيًا: علم الهرمونيا أو النظريّة الصوتيّة بوصفها حقلًا رياضيًّا رديفًا للحساب والهندسة والنجوم، التي تؤلّف الفنون الأربعة. من جهة أخرى تعبِّر مفردة الموسيقى عن نسبة هذه الفنون إلى الموسايا بمعنى آلهات الشعر والفن. منذ عصر هومر إلى المراحل اللاحقة الأكثر تقدّمًا، كانوا يعتبرون الموسايا كائنات إلهيّة وليدة الاقتران بين زيوس ومينوموسينة، أي آلهة الذاكرة والخاطرة، والتي كانت تعزف الألحان في منشأ الأشياء وحياة آلهات الخير ومصير الإنسان، وقائدها أبولو مبدع الموسيقى، والذي يتمّ تصويره على شكل إنسان يحمل في يده آلة العزف على الأوتار. وقد اقترنت البايديا في عصر السوفوت بأسمى الفضائل الإنسانية، وتمّ إطلاقها على الكمال المثالي للجسد والروح. يذهب ييغر إلى القول بأنّ الثقافة الإغريقية إنّما هي حصيلة البايديا، ويعتقد بأنّه لولا الثقافة لما كانت هناك حقبة إغريقية قديمة كوحدة تاريخيّة، ولا كان هناك وجود لشيء باسم العالم الغربي. ولا يخفى أن ييغر كما تعلمون كان يبالغ شيئًا ما في إظهار أهميّة الثقافة والعالم الإغريقيين في تبلور سائر الثقافات والحضارات الأخرى، ولكن لا يمكن إنكار أهميّة البايديا بوصفها من أهمّ العناصر المكوّنة للثقافة والحضارة اليونانية والإغريقية. وفيما يتعلّق بصلة البايديا لا بدّ من الالتفات إلى عدد من النقاط. النقطة الأولى: الصلة والعلاقة الوثيقة بين البايديا والسياسة؛ لأنّ الإغريق كانوا ينظرون إلى الإنسان بوصفه كائنًا سياسيًّا. كما تشير الأبحاث التاريخيّة إلى أنّ الغاية من التربية ليس مجرّد بناء الشخصيّة الفردية للإنسان، بل وكذلك تربية القائمين على إدارة شؤون المجتمع وقيادته أيضًا. ومن هنا تنشأ أهميّة رجال الدولة والسياسة إلى جوار الشعراء والحكماء بوصفهم من طلائع البايديا في اليونان القديمة. كما يشير هذا الأمر إلى صلة الحياة الفكريّة للإغريق بالمجتمع. ويمكن مشاهدة تأثير هذه الرؤية في الأهميّة التي كان يوليها أفلاطون لبناء مجتمع مثالي كانت ثمرته متجلّية في كتاب الجمهورية. النقطة الثانية: صلة البايديا بالفضيلة. والفضيلة الجسديّة ـ كما سبق أن ذكرنا ـ تأتي من طريق التربية الرياضية، والفضيلة الروحيّة تحصل من خلال تعلّم أمور، من قبيل: الشعر، والموسيقى، والرياضيات، والنجوم، حيث الغاية منها جميعًا هي تربية الإنسان. ويجدر بي الإشارة إلى رأي آخر في هذا الشأن أيضًا، وهو الرأي القائل بأنّ الأثر الفني الأكبر الذي كان يتعيّن على الإغريق إيجاده هو الإنسان الحي، وقد تبلورت هذه المعرفة في أذهانهم للمرّة الأولى، وهي أن تربية الإنسان تمثّل مسار التبلور الواعي، ومن هنا يمكن اعتبار البايديا أو التربية من أهمّ عناصر بناء الثقافة اليونانية وحضارتها.
* كيف ترين إلى المكانة التي كان الفلاسفة الإغريق ـ ولا سيّما منهم أفلاطون ـ يولونها إلى البايديا؟
إنّ التربية الحقيقيّة والحثّ على الفضيلة من المسائل المحوريّة التي حظيت باهتمام أفلاطون، وتشكّل مضمونًا للكثير من أبحاثه الفلسفيّة. وحتى في رسالة مثل (فايدون) حيث يستعرض فيها أدلّة بقاء النقص بشكل نظري، نشاهد كذلك الهاجس الأفلاطوني بشأن الفضيلة في سعيه إلى إظهار كيفيّة تقرّر الحياة وطبيعة الإنسان والحياة في هذه الدنيا، مصير الإنسان في العالم الآخر. وحيث إنّ السعي إلى اكتساب الفضيلة ـ من وجهة نظر أفلاطون ـ يجب أن يكون على سلّم حياة الإنسان، تكتسب التربية ـ بوصفها طريقًا مضمونًا إلى الفضيلة ـ أهميّة جوهريّة، حيث تبلغ محوريّتها التامّة في رسالتيه، ونعني بهما: الجمهورية والقوانين. وعلى الرغم من أنّ الموضوع الأصلي في الجمهوريّة هو البحث بشأن الدولة ـ كما يُشير ييغر إلى ذلك، إلا أنّ اهتمام أفلاطون لا يقوم على البحث عن الحكومة والدولة بالمعنى المعاصر، بل إظهار صورة كبيرة عن النفس وتجسيدها أمام عين القارئ. وفي الحقيقة فإنّ أفلاطون كان يعمل على بناء النّفس، والتربية من وجهة نظره بمثابة العنصر الذي يمكن تحريك الدولة بواسطته، وإنّ مسؤوليّة الدولة ومهمّتها الأكبر تكمن في التربية أيضًا. يوجّه أفلاطون في كتاب الجمهورية تركيزه الأكبر واهتمامه على مضمون التربية، وفي موضوع القوانين يتعرّض إلى مسألة التنظيم والتربية الحكوميّة. إنّه من خلال تقسيم التربية إلى تربية بدنيّة وتربية روحيّة، يقدّم برنامجه في إطار تغيير الأساليب التقليدية للتربية، واستبدالها بالأسلوب المنشود له. يبدي أفلاطون اهتمامه ببناء الأخلاق في مرحلة الطفولة. وكما سبق أن أشرنا فإنّ كلمة التربية أو البايديا كانت في البداية بمعنى تربية الطفل أو التروفا، ثم انفصلت عن هذا المعنى بالتدريج. واكتسبت البايديا مفهوم التربية العقلية والروحيّة، وتمّ استعمال التروفا بمعنى تربية الطفل في مرحلة ما قبل البايديا. وفي رسالة الجمهوريّة حيث كان أفلاطون ينشد أعلى مراتب التربية، بقي هذان المفهومان على ما هما عليه من الانفصال. ولكنّهما يقتربان من بعضهما في كتاب القوانين. يبدأ البحث بتربية الطفل، ويقدّم أفلاطون بعض المقترحات التي تعمل على ضبط ميول وغرائز الأطفال وتنظيمها، وتحويلهم إلى مواطنين متكاملين. والكتاب الثاني والثالث من كتاب الجمهورية يختصّان بموضوع تأثير الموسيقى على التربية. حيث يثبت أفلاطون كيف يمكن للشعر والموسيقى أن تؤثّر في إيجاد الفضائل أو الرذائل. يرى أفلاطون أن الشعر يحاور الجانب غير العقلاني منّا وهو الجانب المتمثّل بالعواطف، وهذا هو مكمن أخطائه الجوهريّة. وفي الحقيقة فإنّ الشاعر المقلد، حيث يكون غافلاً عن ماهيّة الشيء وحقيقة الموضوعات التي يعمل على تقليدها، فإنّه يفتقر إلى المعرفة، ويفتقر حتى إلى التوجيه العقلي الصحيح. وكذلك حيث إنّ الشعر يتعاطى مع العواطف والغراز والميول القبيحة، ويضع العقل في قبالها، فإنّه يعمل بذلك على إخفاء العقلانيّة، ونتيجة لذلك لا يمكن أن يكون مقبولاً وموضع ترحيب في المدينة الفاضلة، إلّا إذا كان الشعر تقليدًا لسلوك خيرة الأشخاص، أو تكون الأناشيد موضوعة في وصف الآلهات وتخليد مآثر الأبطال. ويقوم أفلاطون بتسرية حكم الشعر إلى الموسيقى أيضًا؛ إذ لم تكن الموسيقى منفصلة في الثقافة اليونانية عن الشعر أبدًا. لقد كان الشعر تابعًا للموسيقى على الدوام، وكان يلعب دورًا في تحريك مشاعر الناس وإثارة حماسهم. وكان تأكيد أفلاطون على أنّه لا توجد هناك أيّ أداة يمكن لها أن تأخذ مكان الدور القوي والمؤثّر للشعر والموسيقى في مجال التربية، يأتي من حيث اعترافه بالتأثير العميق لهما على روح المخاطبين. وحيث إنّ التربية من أهمّ المحاور الفكريّة لأفلاطون وهي واحدة من أهمّ هواجسه الأصلية، لذلك فقد عُنيَ بكلّ ما من شأنه أن يكون في خدمة التربية. ومن هنا كانت الموسيقى والشعر ـ اللذين كانا في الثقافة اليونانية يُعدّان منذ القدم من العناصر الهامّة في التربية ـ موضع اهتمام أفلاطون. وبطبيعة الحال فإنّ التربية الحقيقيّة عند أفلاطون هي التربية الفلسفيّة. ولكنّه يرى التربية الموسيقيّة مقدّمة للتربية الفلسفيّة. وهو المسار الذي يمكن للفرد أن يتغيّر من خلاله ـ كما يرى أفلاطون ـ بمساعدة أقوى الطرق الروحيّة، أي الشعر والموسيقى، ويعي أنّ أسمى الأصول المتمثّلة بمعرفة الخير يمكن الحصول عليها في ضوء التربية. وهذا مسار طويل يشبّهه أفلاطون بمسار تعلّم القراءة والكتابة. فعلى حدّ تعبيره: كما لا يمكن الادّعاء بأنّنا قد تعلّمنا القراءة والكتابة إلا بعد أن يكون في مقدورنا التعرّف على الحرف بوصفه من أبسط عناصر كتابة الكلمات، كذلك لا يمكن لنا الحديث عن امتلاكنا للتربية الحقيقية، إلا إذا كان بمقدورنا التعرّف على أشكال الشجاعة والصبر والإباء والتحلّي بسائر الفضائل حيثما وجدت أو حيثما أمكن تصويرها وتجسيدها، وأن نعمل على إجلالها والإشادة بها كما يجب.
* إلى أيّ حدّ كانت الحضارة والثقافة اليونانية والإغريقية مدينة ـ في علوّ شأنها ـ إلى حضارات وأفكار الأمم والشعوب الأخرى، مثل إيران ومصر والشرق الأقصى وغيرها؟ هل يمكن لك تحليل رؤية الموافقين لهذا المعنى في الغرب؟
من الطبيعي أن يكون تقدّم كلّ ثقافة ما وازدهارها، ناشئًا إلى حدّ كبير من تعاطيها مع الثقافات الأخرى وتفاعلها معها. والثقافة الإغريقية لا تعدّ استثناء من هذه القاعدة. وبشهادة تاريخ الإغريق كان هناك الكثير من التّواصل والرحلات المتبادلة بين اليونان والبلدان الأخرى، ومن بينها: إيران ومصر. ومن ذلك يمكن الإشارة إلى تالس على سبيل المثال: لقد كان تالس سياسيًّا ورياضيًّا وفلكيًّا بارزًا، وقد حصل على الكثير من العلوم من خلال أسفاره وترحاله الطويل إلى البلدان المحيطة باليونان. وقد عمل في سفره إلى مصر على دراسة الكثير من الأمور والظواهر، ومن بينها طغيان نهر النيل. وكما أشار تايلور ـ مصيبًا في ذلك ـ إلى أنّ اليونان ـ فيما يتعلّق بكتابة الحروف الأبجديّة وازدهار الفنّ الروائي والتصوير ـ كانت مدينة إلى العالم الخارجي والبلدان الأخرى. إنّ الإغريق لم يأخذوا الكتابة الأبجديّة من المشرق فحسب، بل أخذوا حتى أدوات الكتابة منه أيضًا. وحتى الفلسفة اليونانيّة التي هي من ثمار ازدهار الثقافة اليونانية ونتائجها، كانت بتأثير الأفكار التي تعلّمها الإغريق بواسطة التعرّف على أفكار الشعوب والأمم الأخرى. وفي هذا المورد يمكن لنا أن نشير إلى تأثير الأفكار الزرادشتية على فكر اليونان وفلسفته، ومن بينها آراء أفلاطون وأفكاره. وفيما يلي يمكن الإشارة إلى بعضها من بين الكثير من الموارد الأخرى التي تزخر بها المصادر التاريخية: رحلة فيثاغورس إلى إيران، وكتاب إخيليوس الشهير بعنوان (الإيرانيون)، ودعوة اليونانيين إلى البلاط الملكي الساساني، وحضور الأطباء والأساتذة الإغريق في جامعة جندي شابور، وسعي الإغريق إلى ترجمة الديانة الزرادشتية/ المانوية وفهمها. وهجرة الكثير من المفكرين والعلماء اليونانيين إلى إيران، وكان هؤلاء يعملون بعد العودة إلى اليونان على نشر الثقافة الإيرانية هناك، وما إلى ذلك من الموارد الكثيرة الأخرى، التي تدلّ بأجمعها على التعاطي والتبادل الثقافي بين اليونان والبلدان المجاورة لها، وهذا الأمر يؤكّد على أنّ الثقافة اليونانيّة كانت متأثّرة بثقافة الشعوب الأخرى.
* ما هو برأيك مستوى تأثير الأساطير على المعتقدات الدينيّة؟ وبعبارة أخرى: هل كانت ماهيّة الدين في اليونان القديمة متأثّرة بالأساطير بالكامل؟ وكيف تقيّمون وجود الأساطير في فلسفة أفلاطون؟
في البداية لا بدّ من الإشارة إلى هذه النّقطة وهي أنّ المعتقدات الإغريقية الدينيّة كانت مشوبة على الدوام بالأساطير. ففي اليونان القديمة كان الدين الإغريقي دينًا أسطوريًّا. ويمكن القول: إنّ الأساطير اليونانيّة ذات جذور تمتدّ في القِدم على امتداد الحضارة اليونانيّة. وقد كانوا بما يمتلكونه من التركيبة المعقّدة والمتماهية، قادرين على توضيح الكثير من الظواهر السايكولوجيّة والكونيّة. من ذلك أنّهم فيما يتعلّق بظاهرة الرّعد والبرق ـ على سبيل المثال ـ كانوا يعتقدون بأنّ زيوس إله الآلهة عندما يغضب يحرّك صولجانه فيحدث الرعد والبرق بفعل تحريك هذا الصولجان. إنّ الآلهات الإغريقية ـ التي تشكّل الجزء الأكبر من الأساطير اليونانيّة ـ كان يتمّ تجسيدها في أشخاص، وطبقًا لما يقوله هزيود في تبلور الآلهات، كان لكلّ واحد من هؤلاء مساحته الخاصّة التي يمارس مهامّه ونشاطه فيها. ويجدر بنا هنا أن نتوقّف قليلاً عند هسيود وكتابه ظهور الآلهات. يذهب هسيود في هذا الكتاب إلى الاعتقاد بأنّ آرخة كان عالم خاؤوس. وكان خاؤوس في الحقيقة مبدأ لكلّ شيء. وقد تمخّض خاؤوس عن الأرض وتارتاروس وأوروس الذي هو إله الشوق والخصب، ثم يظهر على التوالي الليل، وبعد الليل النهار، ومن الأرض الجبال والبحار والسماء وسائر الآلهات الأخرى. وكان لكلّ واحد منهم رقعة نشاطه الخاصّة. من ذلك على سبيل المثال آرس آلهة الحرب، ورقعة نشاطه هي الحرب. وأبولو إله النظم، ورقعة نشاطه هي التكهّن. إنّ هذا التصوّر من التقسيم عند هزيود يثبت أنّ هذا الشاعر الإغريقي الملحمي ـ الذي يتمّ التعريف به حاليًّا بوصفه أوّل فيلسوف سابق على سقراط ـ كان يؤكّد على مقولة المغايرة، وإنّ هذه المقولة من المقولات الهامّة لكينونة الموجود. إنّ خاؤوس غير قابل للإدراك، ولكن بعد ظهور التمايزات، بمعنى هؤلاء الآلهات التي يكون لكلّ واحد منها الرقعة الخاصة به، يغدو قابلاً للإدراك، وهذا يثبت أنّ العالم يقع في صلب العقلانيّة. وهذه النقطة التي أشرت إليها كانت لأجل إيضاح أنّنا حتى في المرحلة الأسطورية يمكن لنا مشاهدة نماذج من التفكير الفلسفي أيضًا. والنقطة الأخرى التي يجب الإشارة إليها هي أنّه كان لدينا في اليونان القديمة في مرحلة ميتوس ثلاث مجموعات من الآلهات، وهي أوّلاً: آلهات مثل: زيوس، وأبولون، وبزايدون، وأثينا، وهرمس. وثانيًا: المجموعة التي قام زيوس بنفيها إلى تارتاروس، وتسمّى بـ (التيتانيون). وثالثًا: الآلهات الموجودة في كلّ مكان، مثل: الينابيع، والأنهار، والأشجار؛ أي: الظواهر الطبيعية التي يكون كلّ واحد منها منشأ لأثر. لا بدّ من الالتفات إلى أنّ الآلهات الإغريقيّة أو الآلهات الأسطوريّة ـ خلافًا للإله في الأديان الإبراهيميّة ـ تفتقر إلى القدرة والعلم المطلقين؛ بمعنى أنّها بحسب المصطلح الفلسفي لا تمتلك علمًا وقدرة شاملتين. على الرغم من أنّ علمها وقدرتها تفوق قدرة الإنسان وعلمه، وأنّها في الغالب لا تموت. لقد كان اليونانيون يرون ضرورة وجود النقص في الآلهات لاستمرار الحقيقة وإحداث التغيير في العالم. وحيث إنّ الآلهات الإغريقيّة لا تتمتّع بالكمال المطلق، فإنّها لا تجد مندوحة من استشارة بعضها، وتسعى بشتّى الحيل والأساليب إلى تحقيق حدث خاصّ. المسألة الأخرى هي أنّ الآلهات الأسطوريّة والإله المعتبر عند اليونانيين يمتلك مفهومًا مألوفًا. في حين أنّ الصفات الثابتة لله في الأديان الإبراهيميّة يتمّ حملها عليه. من ذلك على سبيل المثال أنّه يمكن القول بالنسبة إلى الإغريق إنّ المحبّة هي الله، في حين يقال في الأديان الإبراهيمية: إنّ الله محبّة. وبعد ظهور التفكير الفلسفي عند طاليس ـ وقد سبق أن أشرنا بطبيعة الحال إلى أنّه يتمّ التعريف به حاليًّا بـ (هزيود) بوصفه الفيلسوف الأوّل قبل سقراط ـ حلّ التفسير غير الأسطوري محلّ الرؤية الأسطوريّة. وقد اتّجهت جهود المفكرين الأوائل في اليونان إلى تفسير ظواهر العالم دون الاستعانة بالكائنات الأسطورية والآلهات. ومع ذلك يمكن ملاحظة حضور الأساطير في أفكار هذه المجموعة من الفلاسفة بشكل واضح. من ذلك أنّ الكثير من الأجزاء الأصليّة في العالم ـ على سبيل المثال ـ تتصف عند المفكّرين اليونانيين بصفات إلهيّة، من قبيل: الخلود. يمكننا القول: إنّ هذه المجموعة من الفلاسفة كانت لا تزال تعيش ضمن المنهج الأسطوري، ولكنّها كانت تسعى إلى تفسير الظواهر ضمن إطار المعايير العقلية.
* كيف واجه أفلاطون النّزعة الأسطوريّة في فهم العالم، وخصوصاً لدى الفلاسفة الذين سبقوه. ومنهم هزيود وهومر وسواهم؟
إذا كان سبب الرّعد والبرق في المرحلة الأسطورية أو فترة ميتوس، يكمن في إرادة زيوس، فقد أضحى في هذه المرحلة معلولاً للرياح التي لا يمكن للعقول أن تدرك كنهها. يمكن لنا القول إنّ الفلاسفة الأوائل في اليونان كانوا يسعون إلى الاستفادة من الأمثلة والنماذج القياسيّة، ومن بينها النماذج الميكانيكيّة لتوجيه الحركات السماويّة. من ذلك مثلاً أن أناكسيمندر كان يعتقد أنّ الأرض تحيط بها عجلات متحرّكة جوفاء وناريّة، وأشار أناكسيمندس إلى حركة قبعة يديرها الشخص حول رأسه. وبالتدريج اتّخذ نقد التفكير الأسطوري أبعادًا أوسع، وأصبح أكنوفانوس وفيثاغورس من بين الناقدين للأساطير. فنجد أنّ أكنوفانوس ينتقد بشدّة آلهات هومر الذين كانوا غارقين في ارتكاب الأعمال الشنيعة، مثل: الاحتيال، والغش، والسرقة، والزنا، وما إلى ذلك، وقد عمل في الوقت نفسه على تصوير نوع من الإله الانتزاعي والتجريدي البعيد عن التأنسن. وأمّا مع أفلاطون حيث دخلت الفلسفة والتفكير العقلاني مرحلة جديدة من حياته، اتّخذ نقد بيان وشرح الأساطير عن العالم أبعادًا أكثر جديّة. ويمكن القول: إنّ جهود الفلاسفة الأوائل في خصوص تقديم تفسيرات غير أسطوريّة فيما يتعلّق بمنشأ العالم أدّى إلى انفصال نظريّة ظهور العالم عن نظرية ظهور الآلهات، وأصبح التفكير في خصوص الطبيعة الماديّة أكثر عمقًا. وكما سبق أن أشرت فإنّ نقد تفكير أسطورة العالم وتفسيرها قد دخل مع أفلاطون مرحلة جديدة. وقد اتّجهت أغلب انتقادات أفلاطون في هذا الشأن إلى هومر بوصفه الشخص الأكثر تأثيرًا في الثقافة اليونانيّة، وكونه معلّمًا لليونانيين. وقد عمد أفلاطون إلى نقد هومر في الكتاب الثاني والثالث من الجمهورية حول محاور هامّة عدّة. أوّلاً، إنّ هومر على حدّ تعبير أفلاطون يكذب في أشعاره على الآلهات ويصوّرها بأنّها تشتمل على صفات إنسانيّة سلبيّة. إنّ آلهات هومر يتمّ التعريف بها كأشخاص سيّئين وأشرار لا يتورّعون عن اقتراف أبشع الرذائل الأخلاقيّة. وبطبيعة الحال فإنّ الصورة التي يقدّمها أفلاطون هنا هي صورة ذات الآلهات التي تكون لها المحوريّة في كتب هومر والإلياذة وأوديسه. يرى أفلاطون أنّ الآلهات هي مظهر الجمال والحُسن والخير المحض، وأنّها منزّهة من جميع أنواع الرذائل الأخلاقيّة. النقد الثاني الذي يوجّهه أفلاطون لهومر هو قوله بأنّ هومر يُظهر الأبطال بوصفهم أشخاصًا جبناء ومخلوعي الفؤاد، الأمر الذي يؤدّي إلى تشويه صورة الشخصيّات المثاليّة لهؤلاء الأبطال في أذهان الشباب الإغريقي. لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الأبطال الإغريقيين ينظر إليهم في اليونان كأنصاف آلهات، وأنّهم بشجاعتهم وإقدامهم واندفاعهم الخارق للطبيعة كانوا يسطّرون الملاحم في الدفاع عن أوطانهم ومقارعة أعدائهم، ولذلك فإنّ أفلاطون يرى في تشويه صورة هذه الشخصيّات المحاربة والمقدامة ذنبًا لا يُغتفر. والإشكال الثالث الذي يطرحه أفلاطون على هومر هو أنّ هومر يعمل في أشعاره على تصوير عالم ما بعد الموت من منطلق الأساطير السائدة. بمعنى أنّه يصوّره بوصفه عالمًا مخيفًا وزاخرًا بالأهوال. بيد أنّ أفلاطون على الرغم من انتقاده الصريح والموجع للأساطير والآلهات الأسطورية، إلا أنّه يستعين بالأساطير في جميع مواضع أبحاثه العميقة والفلسفيّة. ويبدو أنّه كلّما شعر بأن العقل عاجز عن حلّ الألغاز المعقّدة في الحياة والموت، لجأ إلى الاستعانة بالتمثيل والأسطورة. ونجده في بعض الأحيان يستفيد من الأساطير السائدة، وفي بعض الأحيان الأخرى يعمل بنفسه على اختلاق الأساطير بما يتناسب وأبحاثه الفلسفيّة. وإنّ من بين أشهر تمثيلات أفلاطون، تمثيله بالعربة والحوذي والجوادين الأسود والأبيض؛ حيث تمّت الاستفادة من هذا التمثيل في كتابه الفيدروس؛ لإظهار أجزاء النّفس ونسبة هذه الأجزاء إلى بعضها. فالحوذي يمثل العقل في النفس والعنصر الذي يميّز الإنسان من الحيوان. والجواد الأبيض يرمز إلى الشجاعة، والجواد الأسود يرمز إلى الأهواء والرغبات النفسيّة والشهوات. فإذا كان الحوذي (أي العقل البشري) قويًّا ومقتدرًا، أمكنه قيادة العربة في الطريق الصحيح المتمثّل بالسعادة، وذلك بواسطة الحصول على الفضائل. وإلا فإنّ الجواد الأسود الحرِن سوف يحرف العربة عن مسارها الصحيح. ويمكن القول إنّ وجود النزاع داخل النفس هو الذي دفع أفلاطون إلى الاهتمام بأجزاء النفس. كما أنّ النفس حتى في كتاب الجمهوريّة تشتمل ـ بطبيعة الحال ـ على ثلاثة أجزاء أيضًا، حيث يتمّ بيان النسبة فيما بينها من خلال التمثيل بهيولى الروح، بيد أنّ أفلاطون في كتاب حوار فيدون يثبت بساطة النفس وبقاءها. كما يمكن الإشارة من بين الأساطير المعروفة إلى أسطورة إيير في كتاب الجمهورية أيضًا. تتحدّث هذه الأسطور عن رجل اسمه إيير يُقتل في الحرب ويبقى جسده في ساحة المعركة عشرة أيام، ولكنّه خلال هذه المدّة ـ بعد القتل وقبل التشييع ـ يعود إلى الحياة، ويتحدّث عن رحلته من الموت إلى الحياة. وقد استعان أفلاطون بهذه الأسطورة في بيان خلق العالم والحياة بعد الموت. ولا سيّما فيما يتعلّق بتفسيره لمفهوم التناسخ. وأرى من الجدير بالذكر ضرورة عدم المرور على الأساطير مرور الكرام. إذ يمكن لهذا الأساطير أن ترشدنا إلى مفاهيم قيّمة، وأن تكشف لنا عن انتساب إنسان الأسطورة إلى الوجود، كما تضع في متناولنا علمًا ملحوظًا فيما يتعلّق بثقافات الأمم والشعوب، وهذا الأمر الهام يحتاج بطبيعة الحال إلى تأمّل وتفسير.
* ما هي نقاط الاختلاف بين الإله الأفلاطوني/ اليوناني وإله الأديان؟ وهل يمكن اعتبار أفلاطون فيلسوفًا لاهوتيًّا؟
هناك فيما يتعلّق بالإله عند أفلاطون آراءٌ مختلفةٌ، بل ومتضاربة في بعض الأحيان. وإنّ جانبًا من هذه الاختلافات يعود إلى استعمال مفردة الإله والآلهات في آثار أفلاطون، الأمر الذي أدخل المفسرين في بعض المتاهات أحيانًا، فالإله الذي تحدّث عنه ثيماؤوس (الذي هو دميور)، صانع. وهو يمتلك المادة غير المنظمة، بمعنى أنّه يمتلك خاؤوس. وهناك الأمثلة الأزليّة للأفكار أيضًا. إنّ دميور من خلال النظر في الأفكار، يعمل على تحويل المادة غير المنظّمة ـ أي: خاؤوس ـ إلى كوزموس، بمعنى العالم المنظم. وبذلك يكون صانعًا وناظمًا. ومن هنا يتّضح الاختلاف بين دميور والإله في الأديان الإبراهيميّة؛ وذلك لأنّ الإله في الأديان الإبراهيميّة خالق؛ فهو خالق المادّة وخالق كلّ الوجود والإنسان؛ فهو يخلق الأشياء كلّها من العدم. وهناك من يُحلّ الخير محلّ الإله. وبطبيعة الحال حيث يكون مثال الخير موجدًا للأمثال الأخرى، فهو يلعب دور المولّد، وهو في حدّ ذاته الجمال عينه والحقيقة عينها والخير عينه. وفيما يتعلّق بتوضيح الأمر الأوّل، تجب الإشارة إلى أنّ المثال أو الآيديا (اليونانية) من مصدر آيدين، يعني الرؤية. وإنّ السبب في ترجمة هذه المفردة إلى المثال، يعود إلى اهتمام المترجمين العرب برسالة ثيماؤوس، وإنّ الناحية النموذجيّة في الأمثلة لدى دميور هي التي دعت إلى ترجمتها إلى المثال. يصل أفلاطون من خلال بحثه عن المعرفة الحقيقيّة والثابتة والدائمة إلى الأفكار والمُثُل، كما هو الشأن في علم الرياضيات. إنّ المُثُل هي حقائق وذوات سرمديّة تظهر على شكل الجمال ذاته والعدالة ذاتها، وبشكل عام تظهر كما هي عليه في حدّ ذواتها. إنّها موجودة في ما وراء العالم المادي، وما وراء الكثير من الأمور. ويمكن القول: إنّها وحدة خارجة من الكثير، ولا تقبل الحمل على الكثير، حيث يمكن مشاهدتها من خلال نوع الحياة أو العقل البسيط. وفيما وراء المُثل ـ بمعنى الأفكار ـ هناك مثال الخير الذي هو وراء الوجود كلّه. إنّ أفلاطون يصف مثال الخير من خلال المصطلح القائل: (gnosis kai aletheia)، بمعنى: (insight and truth). بمعنى أنّ المُثل تمتاز وراء الوجود المتميّز كلّه من جميع الأعيان المعقولة الأخرى. إنّ مثال الخير واحد يعمل على توحيد المتكثّرات ويكون منشأ لمعرفة كلّ شيء؛ حيث يمكن إدراكه من خلال آثاره. إنّ مثال الخير هو مثل الشمس في عطائها وسطوع أشعتها على الوجود كلّه، وجعله قابلاً للإدراك. يذهب أفلاطون إلى الاعتقاد بأنّ مثال الخير بالنسبة لنا يوجد في إطار الهبات التي يمنحها، أي: في إطار البصيرة والحقيقة. إنّ معرفة الخير عنده ـ بحسب التفسير الذي يقدمه غادامير ـ ليست مجرّد معرفة نظريّة، بل هي من الأصول الثابتة، بمعنى أنّها ذلك العمل الذي يجعل الثبات في الحياة أمرًا ممكنًا. في مثال الكهف يؤكد أفلاطون على نوع من الاهتمام بالعمل الوجودي في معرفة مثال الخير. ولا بدّ من الالتفات إلى أنّه على الرغم من التوصيفات التي يخلعها أفلاطون على مثال الخير، والتي تقترب في بعض المواطن من صفات الإله في الأديان الإبراهيمية، بيد أنّه لم يطلق اسم الإله على مثال الخير أو ثيؤوس. كما أنّ مثال الخير ليس صانعًا للعالم ولا ناظمًا له. إنّ دميور هو الذي يتكفّل بهذه المهمّة، كما أنّ أفلاطون بدوره يستعمل مفردة الآلهات في الكثير من الموارد. ولا سيّما في نقده للرؤية الأسطوريّة إلى الدين؛ حيث يقول: إنّ الآلهات ـ خلافًا لما يتمّ تصويره في أشعار هومر ـ منزّهة عن الصفات البشريّة السلبيّة. وفي كتاب القوانين ـ الذي هو آخر كتاب لأفلاطون ومن أكثر مؤلفاته نضجًا في طرح أفكاره ـ نجده يقول: إنّ الإنسان المعتدل والضنين بنفسه من أحب الأشياء إلى الآلهات. وقال في موضع آخر: إنّ تقديم الأضاحي والتقدّمات إلى الآلهات والتضرّع لها من أشرف الأشياء وأسماها، وأفضل ما يرشد إلى الحياة السعيدة. من الواضح جدًا أنّ اهتمام أفلاطون وإصراره على تنزيه الآلهات، والدور الذي يراه لدميور في فلسفته، يسمح لنا باعتباره حكيمًا متألّهًا؛ لأنّ الفضيلة من وجهة نظره تكمن في التشبّه بالصفات الإلهية، من العدالة والجمال والكمال النفساني. وإن كان ينبغي عدم تجاهل الاختلاف الواضح بين التفكير الأفلاطوني وبين أفكار الحكماء في الأديان الإبراهيمية.