في سبعينيات القرن الماضي ومن قلب إحدى القرى بمحافظة الشرقية المصرية (شرق القاهرة) خرج رجل اسمه محمد سالم الفرماوي يدعي أنه عالم رباني يمشي بنور وإلهام من الله، وأنه ليس كبقية البشر فهو يتلقى الوحي من الله مباشرة، وما عليه إلا البلاغ والتحذير والوعيد لمن يخالفه.
الطريقة التي خرج بها هذا الشيخ كان لها وقع السحر على المحيطين به، فقصر قامته ونحالة جسده وارتداؤه لعمامة كبيرة خضراء والعصا الغليظة التي يمسكها بيده والمطلية هي الأخرى باللون الأخضر، نجحت في تصدير صورة للعامة بأن هذا الرجل خرج من رحم الطبيعة في طريقه إلى جنان الله الخضراء.
وفي ظل مستوى الوعي المتدني في هذا التوقيت لا سيما في قرى مصر ونجوعها، وجدت دعوة الرجل من يتلقفها بكفوف رحبة، حتى تحول إلى شيخ طريقة تسمى على اسمه “الفرماوية” وبات أتباعه يتزايدون يومًا تلو الآخر، كلهم على قلب رجل واحد ولباس واحد وشعار واحد ولغة واحدة.
نشأة الطريقة
لفت أنظار أهالي قرية ساقية أبو شقرة بالشرقية هذا الرجل المتعبد، كثير الصلاة، كثير قراءة القرآن، الذي اختار لنفسه التعبد منفردًا بعيدًا عن الناس، حاولوا الاقتراب منه لمعرفة أسباب هذا السلوك، وبحكم العادة في القرى فإن العلاقات بين الأفراد أشد قربًا وتعقيدا في نفس الوقت، فمن الصعب أن يجد الناس شخصًا هكذا دون الاقتراب منه لمعرفة سبب ما يقوم به، إما بغرض المساعدة لو كان في حاجة أو طرده خارج البلدة إن وجدوا فيه شرًا.
تطور الأمر حتى وصل لبعض أتباع الفرماوي أن نعتوه بـ”النبي المرسل”، فهو من وجهة نظرهم على اتصال دائم بالله عز وجل، يأخذ تعليماته مباشرة منه سبحانه ويبلغها لأتباعه في الأرض
كان الفرماوي شديد الذكاء ونجح في اختيار وتر الدين لدى أهالي القرية للعب عليه، فكان لاعبًا جيدًا، ولم يمر وقت طويل حتى بات الواعظ الأبرز في المسجد الكبير بالقرية، وبات يلقي الدروس بصورة شبه يومية، وساعده حسن إلقائه على مغازلة مسامع وأفئدة الحاضرين فأسرهم بأسلوبه وتعززت مكانته بطريقته.
كان يمكث معظم الوقت مغمض العينين له صوت خافت يشبه أنين المريض ويتمتم أحيانًا بكلمات غير مفهومه مما أوحى للحاضرين باتصاله باللدن الإلهى العلوي ويقذف في قلوبهم الهيبة والرهبة والتوقير له، ومع مرور الوقت بدأ الداعية الشاب في كشف جماعته المزعومة، تلك الجماعة التي توصف نفسها بـ”القرآنية”.
تطور الأمر حتى وصل لبعض أتباع الفرماوي أن نعتوه بـ”النبي المرسل”، فهو من وجهة نظرهم على اتصال دائم بالله عز وجل، يأخذ تعليماته مباشرة منه سبحانه، ويبلغها لأتباعه في الأرض، ومثل هذه المناجاة لا تكون إلا لولي أو نبي، ساعدهم على ذلك الجهل الذي كان متفشيًا في هذا التوقيت.
8 أصول عقائدية
أكثر ما أمتاز به الفرماوية تقديم العقل على النقل، وفق ما ذهب الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية أحمد النشرتي، الذي أوضح أن حديث النبي عليه السلام “استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك” هو المنهج العقدي المعتمد لدى هذه الطائفة، فهم يعتبرون أن قلب المرء معيار التقييم الأوحد.
وأضاف النشرتي لـ”نون بوست” أنه ووفق هذا المعتقد فإن الضوابط والأحكام الشرعية تنحصر في حس الشخص وما يسترعاه قلبه دون أي اعتبارات أخرى، فقد يلفظ قلبك معصية ما فتصبح حرامًا بينما يستسيغها آخر فتصبح حلالًا وهكذا، وهو ما لاقى استحسانًا كبيرًا عند أتباعه.
وأوضح الباحث في الجماعات الإسلامية أن مما يقول به الفرماوية نفي الأخذ بالأسباب، والاعتقاد بأن قلوب البشر منها مؤمن ومنها كافر، والقلب المؤمن هو مؤمن بطبيعته فلا يحتاج إلى دعوة، والقلب الكافر هو كافر بطبيعته فلا تنفع معه دعوة، كما أن منهجهم في ذلك أن الدعوة تكون سلوكية فقط دون كلام، لأن أهل الكلام علماء كتب، وليسوا علماءً ربانيين، ولذلك يجب مواجهة الدعاة المتكلمين بالصمت.
يستعرض عضو الجماعة في مذكراته بعض الأصول العقائدية التي تؤمن بها الجماعة، على رأسها: ترك الأخد بالأسباب، إذ كان هذا المبدأ من المبادئ الأساسية في طريقهم، وعليه تبنى أكثر معتقداتهم
يقول المهندس عبد الرحمن عبد اللطيف، أحد أعضاء الجماعة لمدة 25 عامًا، في مذكراته التي نقلها الكاتب أحمد خليفة: “ينظر الفرماوية إلى الناس باعتبارهم “أهل الباطل” وليس فيهم خير، إذ لو كان فيهم خير لهداهم الله إلى الحق الذي هم عليه، لأنهم هم خير الناس على وجه الأرض، ولا يدانيهم في منزلتهم الشهداء، ولا العلماء، لأنهم تلقوا الدين من قلوبهم وليس من الكتب، ويقولون عن أنفسهم “نحن رجال على الفطرة”، أما باقي المجتمع فيقولون عنه شيطان وعدو محمل بأباطيل الكتب، ولا رجاء في هدايته”.
وأضاف أن أتباع تلك الجماعة لا يذهبون إلى المدارس ولا إلى الأطباء مطلقًا، ومن ذهب منهم كفروه، كما لا يعملون في وظائف حكومية ويستقيلون منها، لأن الحكومة كافرة، والأهم في أيديولوجيتهم، أنهم لا يؤمنون بالحديث النبوي ولا يعترفون إلا بالقرآن فقط.
ويستعرض عضو الجماعة في مذكراته بعض الأصول العقائدية التي تؤمن بها الجماعة، على رأسها: ترك الأخد بالأسباب، إذ كان هذا المبدأ من المبادئ الأساسية في طريقهم، وعليه تُبنى أكثر معتقداتهم، فهم يزعمون أن الأخذ بالأسباب يطعن في صحة التوكل على الله وفيه شبهة شرك، وكانت هناك عبارة يرددونها: “للناس أسباب وأسبابنا التقوى”، ويسوقون على ذلك أدلة من القرآن فقط، فالسنة عندهم ملغاة تمامًا، وهو قوله تعالى {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}.
كذلك عدم السعي للرزق والتفرغ لعبادة الله ، وهذا يعد من المبادئ ذات الصدارة في طريقهم، إذ إن الله خلق الخلق لعبادته ودليلهم في ذلك قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}.
يعد الاعتزال والخلوة وعدم الاختلاط بالناس أحد أبرز الركائز العقدية لهذه الجماعة، وهو ما رسخه فيهم شيخ طريقتهم
ومن بين الأصول أيضًا عدم الأخذ بأسباب القوة، فكان تفسير الفرماوي للآية {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} أن هذه هي قوة الإيمان فقط، أما القوة البدنية والعسكرية والاقتصادية وغيرها فلا شأن للمؤمنين بذلك، فلا معنى أن يتلقى جيش المسلمين تدريبات ويهتموا بأسلحة أو غيرها، فالمؤمن رقيق القلب لا يستطيع أن يذبح دجاجة فكيف يستطيع أن يقتل بشرًا!
ويعد الاعتزال والخلوة وعدم الاختلاط بالناس أحد أبرز الركائز العقدية لهذه الجماعة، وهو ما رسخه فيهم شيخ طريقتهم، بقوله: “إنك إذا خلوت بالله واعتزلت الناس حصلت لك حالة صفاء تصلح لأن يفيض الله عليك بفيض العلم الرباني والكشف، أما الاختلاط بالناس يسبب نزول الحجاب بين الله وقلبك، فمعاصي الناس تعتبر حجاب للكشف النوراني، ولذلك هم لا يصلحون للكشف الرباني، فإذا خالطهم الإنسان صار غير صالح للكشف مثلهم”.
كما أنهم ينكرون في الوقت ذاته الكتب الشرعية، إلا القرآن، إنكارًا تامًا لا يحتمل النقاش ولا يقبل المفاوضة بما في ذلك كتب الأحاديث الصحيحة وغيرها وكتب السيرة والفقه والحديث قاطبة دون استثناء، يقول شيخهم: “القرآن هو الكتاب الحق الذي ليس فوقه كتاب، ولا تحته كتاب”، وعليه فإنهم لا يؤمنون بالسنة ولا ما ورد من أحاديث.
ذكريات مع الجماعة
عدد من شيوخ السلفية استعرضوا في مقاطع صوتية لهم ذكرياتهم مع تلك الجماعة، خاصة حين رافقوا بعض أعضائها داخل السجون والمعتقلات في فترة الثمانينيات وما تلاها، من بينها ما ذكره الداعية السلفي وجدي غنيم الذي كشف بعض معتقداهم ومن بينها تحريم العمل.
وأضاف غنيم في مقطع صوتي له أنه رافق أعضاء تلك الجماعة في أحد السجون عام 1981، وأنهم يؤمنون بأن العمل حرام بالإجماع، فلو التحق الشخص بعمل ما يدخل هنا تحت دائرة الكفر، فالطبيب والصيدلي وكل المهن الأخرى كفار من وجهة نظرهم، لأنه بذلك كفر بمعتقد أن الله هو الرزاق، وأن رزقه سيأتيه دون عمل، الطريف الذي ذكره غنيم أن هناك استثناءً لديهم وهو أن العضو الجديد الذي يلتحق بهم يجوز له العمل من أجل الإنفاق على الأعضاء الآخرين الذين يحرمون العمل.
الموقف ذاته تعرض له الداعية أبو إسحق الحويني، ففي تسجيل صوتي له يروى أن الشيخ الفرماوي سجن معه في زنزانة واحدة، قائلًا: “أتت إلينا إدارة السجن لتقوم بتصويرنا لعمل ملفات لنا كمعتقلين، فما كان من الفرماوي إلا أن أفتى بأن التصوير حرام وكفر، فقام أتباعه بعمل تكتل كبير خلف باب الزنزانة حتى لا يدخلون عليهم ويصورونهم، فوضعت إدارة السجن عسكريًا أمام زنزانتهم حتى لا يأتيهم طعام فيجوعوا فيرضخوا للتصوير، لكنهم استمروا على تلك الحالة لأكثر من خمسة أيام وهم ممتنعون عن فتح الباب، وبالتالي نفد ما لديهم من طعام فجاعوا”.
وأضاف الحويني “فما كان من الشيخ مصطفى درويش رئيس جمعية أنصار السنة بسوهاج وهو كان أحد المعتقلين معهم إلا أن رأف بحالتهم، وقال لا يمنعهم فكرهم عن أن نمد لهم يد العون، فقام وكانت زنزانة الشيخ مصطفى بالدور الثالث، وزنزانة الفرماوي في الأرضي، وكان الشيخ مصطفى يضع أرغفة الخبز والحلاوة فى غطائه، ويقوم بإنزالها عن طريق حبلين من زنزانته إلى زنزانة الفرماوي الذي كان جالسًا على بطانيته أمام الشباك ليتنفس، فما كان منه إلا أن يمد يده اليسرى ليأتي بالخبز ويعطيه لأتباعه، ويده اليمنى ليأخذ الحلاوة الطحينية، ويقول لهم هذا رزق ساقه الله إلينا، وهم يصيحون “الله عليك يا مولانا”!
وبعيدًا عن تحريم معتقدات هذه الجماعة كونها من البدع المخالفة لصحيح الإسلام وفق ما ذكره عدد من رجال الدين فإنها ظلت لفترات طويلة أحد أبرز الطوائف التي فرضت نفسها في الشارع المصري لعقود طويلة، ولم يتبق منها الآن إلا العشرات في ظل عدم وجود إحصائية رسمية لهم.