الأحادية الأيديولوجية وشوفينية منظمات المجتمع المدني
رفقة شقور الخميس، 22 يوليو 2021
شهد العقد الأخير حالة من التراجع لدى أحزاب اليسار الإسرائيلي، وذلك نتيجة عدة عوامل داخلية وخارجية، قادت تلك الأحزاب إلى التموضع تحت برامج الأحزاب اليمينية المتطرفة. فقد أعلن غانتس بأنه “لا فرق بين اليمين واليسار في قضايا الأمن ومصالح إسرائيل الوجودية”، وأن المهمة الرئيسية لدى الأحزاب الإسرائيلية تكمن في تكريس الإدارة السليمة للدولة ومحاربة الفساد، وهذا الواقع السياسي يسمى في علم السياسة “الأحادية الأيديولوجية”.
من أهم أسباب فشل اليسار الإسرائيلي هو تركيزه على الوجود الخطابي، فقد وجهت أحزاب اليسار خطاباتها للخارج لمؤسسات دولية ومؤسسات مجتمع مدني خارجية، وهذا تسبب في عزلتها عن الواقع الداخلي، فبدلاً عن إقناع المجتمع المحلي بضرورة هذا الخطاب القائم على المساواة في الحقوق والعدالة الاجتماعية، وجهت هذا الخطاب للخارج، مما نتج عنه تبني شريحة واسعة من الأكاديميين الإسرائيليين لخطاب حل الدولة الواحدة، انطلاقاً من التسليم بواقع الاستيطان وبأنه لا يمكن تغييره أو التأثير فيه.
في العام ٢٠١١ حين تولت شيلي يحيموفيتش رئاسة حزب العمل، وكانت مدافعة عن الفهم الحقوقي والأخلاقي للصراع وعُرفت بيساريتها الاجتماعية ومواقفها الاقتصادية، عمدت إلى حصر نشاط حزب العمل في القضايا الاجتماعية الداخلية وعدم الالتفات لقضايا الأمن والسياسة، وذهبت أبعد من ذلك إلى مغازلة المستوطنين المتطرفين منهم. هذا أدى إلى تراجع الأساس الذي شيّد رابين عليه حزب العمل، وهو الأساس الأمني والذي كان مبررا لوجود ونشاط حزب العمل، مما تسبب في هجوم شرس للأحزاب اليمينية على اليسار، وسهل مهمتها في اتهام اليسار بانفصاله عن واقع دولة إسرائيل وبانعزاله عن المخاطر السياسية والأمنية التي تتربص بها.
من أهم المظاهر التي تمخضت عن تراجع اليسار الإسرائيلي في مؤسسات دولة الاحتلال خلال العقد الأخير ورافقته؛ هو نشوء ما يسمى “المجتمع المدني المتطرف” داخل دولة الاحتلال، حيث يدور جدل واسع حول طبيعة عمل مؤسسات المجتمع المدني داخل دولة الاحتلال، بعد ما حققته من نفوذ واسع في مؤسسات الدولة في العقد الأخير. ويذكر من تلك المؤسسات: منتدى كوهيلت، ومنتدى دراسات الصهيونية، وجمعية ريغافيم، وجمعية انترنتسو، وإن جي أو مونيتور، وأكاديميا مونيتور.
يتعارض عمل مؤسسات المجتمع المدني هذه مع أدوار وخصائص ومبادئ المجتمع المدني عموماً، حيث اصطلح عالمياً على أن المجتمع المدني هو المجتمع الذي تكونت مؤسساته ومنظماته بشكل مستقل عن سلطة الدولة، حيث تكون الرابطة بينها اختيارية، ويبنى عملها لتحقيق المصالح المشتركة، التي تمثلها الأحزاب والجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية والنقابات ومنظمات حقوق الإنسان وعموم الحركة الاجتماعية.
وقد أثبتت المؤسسات الإسرائيلية المذكورة بأنها تسير عكس أدوار مؤسسات المجتمع المدني المتعارف عليها عالمياً وتفاقم الأمر خلال العقد الأخير، خاصة عند ازدهار وسيطرة التيار اليميني المحافظ في الولايات المتحدة، بسبب تلقي مؤسسات المجتمع المدني تلك معظم ميزانياتها من ذلك التيار، كذلك من أفراد يمينيين عنصريين متطرفين سواء من صهاينة الولايات المتحدة أو كندا.
تتركز مهمات مؤسسات المجتمع المدني المتطرفة في إسرائيل على خلق حالة من الوعي السياسي المحلي العنصري، عبر عملها على خنق الحيز العام وسحب الشرعية من مؤسسات المجتمع المدني التي تأسست منذ السبعينات، مثل مؤسسة حقوق الإنسان الإسرائيلية، ومنظمة بتسيليم، ومؤسسة شوفيم شتيك التي تأسست في الألفينات، وعمدت إلى التضييق على هذه المؤسسات في عملها ضمن نطاق الفهم المتعارف عليه لعمل مؤسسات المجتمع المدني عالمياً، وضيقت عليها عبر السيطرة على مؤسسات الدولة التشريعية، وحاولت تقييد عملها بقوانين عنصرية تتهمها بالعمل ضد صالح دولة الاحتلال.
إذن، نحن أمام مجتمع مدني يميني صهيوني متطرف يهدف في وجوده لإلغاء العدالة والمساواة الاجتماعية، والانقضاض على حقوق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة لعام ٦٧ وفي الداخل المحتل، وذراع مباشر لأهداف الصهيونية وللفوقية اليهودية للدولة الإسرائيلية، حيث دعمت تلك المؤسسات سن قانون القومية المعروف بأشد القوانين عنصرية في العالم، كذلك دعمت قانون إلغاء لم الشمل الذي يهدف لإلغاء حق الفلسطينيين في لم شمل أُسرهم. وتورطت منظمات المجتمع المدني تلك بمجموعة كبيرة من النشاطات الاستيطانية، فيما دعمت أيضا قانون ضم أراضي الضفة الغربية ومشاريع الاستيطان في القدس والضفة، وحاولت الضغط ضد الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من غزة.
رغم وجود عمل تاريخي لمؤسسات المجتمع المدني في دولة الاحتلال منذ نشوئها على أنقاض نكبة الفلسطينيين، إلا أن نهضتها وتوسعها في العقد الأخير في نشاطات عكس قيم مؤسسات المجتمع المدني العالمية ارتبط بسيطرة اليمين المتطرف على رئاسة وزراء الدولة والكنيست الإسرائيلي، حيث سعت لشن قوانين تهاجم فيها بتسيليم والمؤسسة اليهودية لحقوق الإنسان ومنظمة عدالة وتعمل على تضييق مواردها بشكل قانوني، فيما كرست منظمات المجتمع المدني بقيمها العكسية المناهضة لحقوق الإنسان رؤية اقتصادية نيوليبرالية قائمة على فكرة السوق الحر، واستعملت في سبيل ذلك خطابا يمينيا متطرفا عنصريا استناداً لنفوذ أحزاب اليمين المتطرف التي تدعو لقتل الفلسطينيين والتخلص من الوجود العربي في فلسطين المحتلة.
فتلك المؤسسات تتبنى رؤية محافظة صهيونية مبنية على تفوق العرق والديانة اليهودية على باقي الأعراق والديانات، وهذا ما دعمته الأحزاب اليمينية التي صعدت إلى السلطة ونشطت على حساب تراجع اليسار الإسرائيلي، واتجاه المشهد السياسي الإسرائيلي نحو الأيديولوجية الواحدة.
في سبيل تحقيق تلك الأهداف، تسعى مؤسسات المجتمع المدني المتطرفة مثل أكاديميا مونيتور إلى التضييق على الأكاديميين في المؤسسات الأكاديمية في دولة الاحتلال، عبر فرض رقابة واسعة على نشاطات الأكاديميين التي وصفتها تلك المؤسسات المدنية المتطرفة بأنها نشاطات أكاديمية قد تمس أمن دولة الاحتلال، مما أدى لتسمية تلك المؤسسة عبر هآرتس بمؤسسة استخباراتية للدولة.
عند دراسة عمل منظمات المجتمع المدني المتطرفة الإسرائيلية وانفصام عملها عن نظيراتها من مؤسسات المجتمع المدني في باقي دول العالم، فإننا نصل إلى نتيجة مفادها بأن خصوصية واقع عمل تلك المؤسسات العنصرية المتطرفة نابع من واقع دولة الاحتلال، لأن أي نشاط حر للمؤسسات الحقوقية وللأكاديميين ولمؤسسات مجتمع مدني حرة تتبنى قيم العدالة والحق في تقرير المصير والمساواة؛ قد تشوه صورة دولة الاحتلال في الداخل والخارج.
فالمبادئ التي تقوم عليها دولة الاحتلال، من استيطان غير مشروع وسرقة أراضي الفلسطينيين، والتصفية العرقية للفلسطينيين، والزج بالمقاومين الفلسطينيين في السجون، والتعدي على حق الحياة.. لا تحتمل في جوهرها نشاط مؤسسات مجتمع مدني تنادي بالعكس وفق رؤية اليمين الصهيوني المتطرف الحاكم في مؤسسات الدولة.
لا يمكن الحديث عن مؤسسات مجتمع مدني قوية وفق الرؤية القائمة على الحريات وحقوق الإنسان في دولة الاحتلال، بسبب تراجع أحزاب اليسا رواستيلاء الخطاب اليميني على المؤسسة الإعلامية، فيما تتعرض منظمات المجتمع المدني الحر، مثل بتسيليم وعدالة ومؤسسة حقوق الإنسان اليهودية، للتضييق والملاحقة والتشهير ومصادرة الموارد، وأصبح كل ما تستطيع عمله هو النشاط الخطابي أو اللجوء للمحكمة العليا الإسرائيلية في الحالات التي تتعلق بالتضييق عليها أو بالتعدي المستمر على حقوق الإنسان.
فنهضة مؤسسات مجتمع مدني قوية في ظل نظام الفصل العنصري وسيطرة اليمين المتطرف أمرٌ عكس التيار العام، وأي وجود لمؤسسات مجتمع مدني فاعلة في مجالات حقوق الإنسان والحرّيات تستدعي أن يعود اليسار الإسرائيلي لمجموعة المبادئ التي تأسس عليها والخروج من عباءة اليمين المتطرف، وهذا غير ممكن وفق المؤشرات الحالية حول وقائع الحياة السياسية داخل دولة الاحتلال.