حمزة ياسين
صانع للحياة وباني للمشاريع
في جلسة خاصة جمعتني مع عدد من إداريين في العمل الخيري في مدينتي وتحدثوا فيها عن المشاكل والتحديات التي يواجهونها في مجالهم، فاجأتهم بحديثي قائلا (أكبر مشكلة لكم أيها الأصدقاء أنكم تزيدون الفقير فقرًا! وأنكم تساهمون في زيادة مشكلته لا حلها، فليست مشكلة الفقير أنه احتاج في يوم من الأيام إلى المال لحاجة أو لضيق أصابه، لكن المشكلة الأكبر للفقير أن يصبح معتمدًا على غيره دائمًا ويعتقد أنه بحاجة لمساعدة الآخرين طول عمره، فالفقير الحقيقي هو من حرم من نعمة العطاء، وأصبح يظن أنه بجاجة للمساعدة دائمًا وأنه لا يستطيع مساعدة أحد).
نعم أيها القراء، اليوم نحن نحتاج إلى علم وصناعة جديدة لن تجدوها في علوم الصناعة ولا في بحور الهندسة، ولن تجد أصحاب الأموال يتحدثون عنها رغم أنها مربحة أكثر من أي صناعة أخرى، إنه علم (صناعة الإنسان) وأقصد بهذا المصطلح فن تحويل الإنسان من شخص خامل إلى شخص منتج، من شخص محدود الأدوار إلى شخص صاحب تأثير لنفسه ومحيطه ومجتمعه.
نعم يا سادتي، إن المهمة الأسمى لنا اليوم أن نبدأ بالتفكير كيف نحول هؤلاء البشر من حولنا من أشخاص عاديين بسطاء أقصى تفكير لهم كيف يوفر الواحد فيهم لقمة يومه الذي يعيشه إلى أدوات إنتاج ومشاريع متحركة، تحيي الأرض وتحيي البيئة وتحيي الإنسان.
ألا ترون أن علوم الصناعة تحول المواد البدائية من مواد خام إلى منتجات تفيد البشرية، أليس الإنسان أيضا بجاجة إلى علم يحوله من شخص سلبي منتقد لما حوله إلى شخص إيجابي مستخدم لإمكاناته فيما يفيد مجتمعه.
ألسنا بحاجة إلى أن يهتم المفكرون والعلماء بالمؤلفات التي تبني الإنسان فكرا وسلوكا، وتساهم في إصلاح فكره وثقافته، وتحويل جهده من عمل فردي لنفسه إلى عمل جماعي يبعث الحياة فيما حوله.
نعم نحن أحوج ما نكون إلى أن نخلق اتجاها مجتمعيا يدفع الناس للبعد عن الوظائف الثابتة إلى المشاريع الخاصة التي تحولهم من موظفين ينتظرون رواتبهم إلى أصحاب أعمال يوظفون من حولهم.
نحن بحاجة إلى أن تتجه الجمعيات الخيرية من تعويد الفقراء على رواتب ومساعدات دورية إلى اكتشاف موهبة الفقير وما هو العمل الذي يتقنه؟ وأن نساعده ليكون له مشروع إنتاجي يدر عليه دخلا متصاعدًا ويساعد غيره من الفقراء.
ونحن اليوم بحاجة إلى أن تبدأ المؤسسات التربوية والتعليمية بإضافة مواد من علوم الاجتماع وعلم النفس التطبيقي إلى مناهجها، وأن تطور من أساليب التعلم لديها من تلقين وحشو الأدمغة بالمعلومات إلى أن نتبكر أساليب تطبيقية وعملية يطبق الإنسان فيها ما يتعلم، ثم نعلمه أساليب الإبداع والابتكار ونطلب منه مشاريع تخرج تليق بالإنسان الذي نريد.
نحن اليوم أحوج ما نكون من تحويل المبادرات المجتمعية إلى مؤسسات مجتمعية، وأن ننتقل من مرحلة (ردود الأفعال) إلى مرحلة (التخطيط السليم)، ومن العمل على المشاكل والكوارث فقط إلى العمل على اكتشاب المواهب واستغلال القدرات، وأن ننتقل من الأعمال التصحيحية للفعل إلى الإجراءات الوقائية لما قبل الفعل، وأن يصبح من أهم أهداف هذه المبادرات المؤسسات أن تستفيد من الإمكانيات المتاحة في بيئتها من موارد بشرية و طبيعية وتحويلها إلى استثمارات مستدامة دائمة تعود بالنفع على المجتمعات والأوطان.
ولا بد لي من الإشارة إلى أن هناك في علم صناعة الإنسان ثلاث خطوات مهمة وهي
الأولى: تحديد تخصص الإنسان
وهي أن نكتشف ما هو مجال الإنسان الذي يبدع فيه، وما هو المجال الأمثل الذي يتناسب مع قدراته ورغباته وطموحاته.
الثانية: تأهيل الإنسان
ونعني بهذه الخطوة أن نؤهل الإنسان لأن يكون منتجًا، فنسعى إلى صقل شخصيته و ورفع كفاءته والتأكيد على استثمار القدرات والموارد وأن يتعود على العمل المؤسسي المهني.
الثالثة: تأسيس مشروع الإنسان
وهذه هي الخطوة الأهم، أن يبدأ الإنسان بتعريف نفسه من خلال مشروع عملي على أرض الواقع، وقد يحتاج الإنسان في هذه الخطوة أن نساعده بأن نوفر له جزءا من رأس المال الذي يحتاجه لتأسيس مشروعه، وأن نتابع مراحل تقدم مشروعه، حتى يصل إلى مرحلة يعتمد فيها على نفسه ويصبح منتجًا ومصدرًا للنجاح فيما حوله.
إنني مؤمن اليوم أننا بأمس الحاجة إلى متخصصين في علوم صناعة الإنسان، وإلى أن ينتشر هذا العلم بين الناس وأن يصل إلى أصحاب الرأي وصناع القرار، لأني أعتقد أن النهضة المطلوبة أساسها صناعة الإنسان ثم بعد ذلك ننتقل إلى الصناعات الأخرى التي يساهم فيها الإنسان.
وأعتقد أن علم صناعة الإنسان لن يسعه مقال واحد، لكني أتمنى أن أكون لمست شيئًا في نفوسكم يدفعكم إلى أن تصبحوا اليوم صناعًا للإنسان لا صناعة للمادة التي يشكلها الإنسان، ودمتم صانعين مبدعين دائمًا.