يناقش أناتول ليفين، في مقابلة معه، الهفوات التي اقترفتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الأوسع.
أناتول ليفين باحث بارز حول شؤون روسيا وأوروبا وجنوب آسيا في معهد كوينسي للحكم المسؤول في واشنطن العاصمة. له كتب كثيرة، من بينها: Pakistan: A Hard Country (2011) (باكستان: دولة صعبة) وAmerica Right or Wrong: An Anatomy of American Nationalism (2004 ثم نسخة معدّلة في 2012) (أميركا بين الحق والباطل: تشريح القومية الأميركية)، وكتابه الأحدث Climate Change and the Nation State: The Case for Nationalism in a Changing World (تغيّر المناخ والدولة الأمة: دور القومية في عالم متغيّر). عمل ليفين في الثمانينيات والتسعينيات في الصحافة، إذ كان مراسل صحيفة تايمز أوف لندن في جنوب آسيا والاتحاد السوفياتي سابقًا. وقد حاز كتابه المعنون The Baltic Revolution: Estonia, Latvia, Lithuania, and the Path to Independence (الثورة في دول البلطيق: إستونيا ولاتفيا وليتوانيا والمسار نحو الاستقلال) على جائزة جورج أورويل للكتابة السياسية. أجرت “ديوان” مقابلة مع ليفين في الأسبوع الثالث من شهر تموز/يوليو لمعرفة رأيه حيال دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط في هذه المرحلة التي يشهد فيها الانخراط الأميركي في المنطقة تغيّرات جمّة.
مايكل يونغ: في كتابك America Right or Wrong: An Anatomy of American Nationalism (أميركا بين الحق والباطل: تشريح القومية الأميركية)، الذي تنبّأت فيه على نحو ملفت بسنوات عهد دونالد ترامب، تعتبر أن الدعم الأميركي لإسرائيل أساسي لما تسمّيه “الخطاب القومي الراديكالي” في أميركا. ما الذي تقصده بذلك، وما المكانة التي تحتلّها إسرائيل في الثقافة السياسية الأميركية؟
أناتول ليفين: لقد اعتادت الولايات المتحدة، أو على الأقل المنظومة السياسية الأميركية، النظر إلى إسرائيل تقريبًا على أنها جزء من الولايات المتحدة، أو على الأقل اعتبارها تتماهى معها بشكل وثيق للغاية على مستوى الثقافة والمجتمع والقيم. يشبه ذلك إلى حدٍّ ما نظرة البريطانيين إلى أستراليا، أو الروس إلى صربيا. أدّى ذلك إلى اعتبار أن أعداء إسرائيل ومنتقديها هم تلقائيًا أعداء الولايات المتحدة. لكن يبدو أن هذه النظرة تتبدّل تدريجيًا في أوساط الأميركيين الليبراليين على الأرجح، وخير مثال على ذلك كتابات بيتر بينارت في صحيفة نيويورك تايمز. فقد كان من المستحيل التعبير عن آراء مماثلة لآراء بينارت منذ عقد من الزمن.
يونغ: يكمن أحد جوانب استراتيجية فك الارتباط الأميركي في الشرق الأوسط في العلاقة المشحونة مع الإسلام، بمعنى أن ثمة شرخًا ثقافيًا بين أميركا والعالم الإسلامي. كيف يتقاطع ذلك مع دراستك للقومية الأميركية، وما كانت نتائج ذلك للمسلمين القاطنين في الولايات المتحدة؟
ليفين: لا أعتقد أن الولايات تفك ارتباطها في الشرق الأوسط، بل هي تتراجع عن انخراطها المكثّف هناك، والذي تمخّضت عنه نهاية الحرب الباردة، وبداية “الحرب على الإرهاب”، والأهم غزو العراق. تنبع العلاقات الأميركية المعقّدة مع الإسلام جزئيًا من التباينات الشاسعة في القيم، لكنها تُعزى أكثر من ذلك بكثير إلى توجّهات متضاربة تتمثّل في الولاء الأميركي لإسرائيل (الأمر الذي لا يحظى بشعبية في أوساط معظم المسلمين، ما يدفعهم حكمًا إلى انتقاد الولايات المتحدة) من جهة، والتحالفات الأميركية مع السعودية والأردن ودول إسلامية أخرى، والتي تقتضي احترام الإسلام. ولا أتوقّع أن تنحسر هذه التجاذبات في المستقبل المنظور.
يونغ: لا تعتقد أن الولايات المتحدة تفك ارتباطها في الشرق الأوسط، لكن يبدو أن دولًا عدة ترغب في ملء الفراغ الذي خلّفته الولايات المتحدة في المنطقة خلال الأعوام الماضية. وهي تشمل دولًا إقليمية غير عربية مثل تركيا وإيران وإسرائيل، إضافةً إلى روسيا، ودول عربية أكثر حزمًا مثل الإمارات العربية المتحدة. هل كان يمكن للولايات المتحدة أن تتعامل بشكل أفضل مع تراجع دورها المهيمن في المنطقة، وما نتائج مثل هذه الديناميكيات اليوم؟
ليفين: إن فك الولايات المتحدة ارتباطها في الشرق الأوسط ليس هو تحديدًا ما أتاح فرصًا أمام روسيا وإيران. فلطالما كانت لروسيا مصالح مهمة في المنطقة، فيما إيران موجودة هناك قبل دخول الولايات المتحدة إلى المشهد بنحو 2,500 عام. ما أتاح هذه الفرص إذًا هو إفراط الولايات المتحدة في ممارسة النوع السيئ من الانخراط، أي تدمير الدولتين العراقية والليبية، وسعيها العبثي إلى محاربة الدولة الإسلامية والإطاحة بالنظام السوري في آن. هذه الأمور هي التي شكّلت فرصًا للتدخل – أو ما تسمّيه الحكومتان الروسية والإيرانية “واجبًا” ]عليهما للتدخل[.
بالتأكيد كان باستطاعة الولايات المتحدة اعتماد استراتيجية أفضل بكثير في تخلّيها عن نهج التدخل المفرط الذي كانت تنتهجه إدارة الرئيس جورج دبليو بوش. كان بإمكانها السعي إلى تحقيق تقارب مع إيران في مرحلة أسبق وبدرجة أكبر من العزم؛ وتكثيف جهودها لوضع حدّ لنفوذ السعودية وسلوكها؛ وبالطبع عدم الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران في عهد ترامب. باختصار، تُعزى أسباب هذا الفشل إلى السياسات الأميركية الداخلية وتأثير مجموعات الضغط (اللوبي) المؤيدة لإسرائيل، أكثر منه إلى المصالح الأميركية القومية أو متطلبات الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.
يونغ: عملتَ على تغطية باكستان وأفغانستان لصالح صحيفة تايمز أوف لندن خلال ثمانينيات القرن الماضي. على ضوء انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، هلّا شرحت لنا كيف يمكن أن تشكّل البلاد جبهة جديدة في المنافسات الإقليمية السائدة في الشرق الأوسط، بحكم موقعها على الحدود الإيرانية؟
ليفن: قد تصبح أفغانستان جبهة جديدة في المنافسات الإقليمية، لكن ذلك ليس أكيدًا. فمعظم القوى الكبرى في المنطقة (ومن ضمنها الهند راهنًا) تدرك تمام الإدراك الحاجة إلى تأسيس علاقات عمل جيدة مع طالبان، طالما أن الحركة لا تشكّل تهديدًا لها عبر دعم الإرهاب الدولي. في هذا السياق، تصرّ الهند عن حق على أن إدانة طالبان للإرهاب الدولي المتمركز في أفغانستان يجب أن يشمل أيضًا مناهضة الجماعات الإسلامية الباكستانية التي تستهدف الهند.
وتتمثّل إحدى العوامل التي تلعب دورًا أساسيًا وحاسمًا في هذا الإطار في العلاقة بين حركة طالبان التي تتألف من البشتون في الدرجة الأولى وبين السكان المنتمين إلى مجموعات إثنية وإثنو-دينية أخرى في أفغانستان. وفي حال عاد الوضع في أفغانستان إلى ما كان عليه قبل 11 أيلول/سبتمبر 2001، أي حين كانت طالبان تخوض معارك ضد الهزارة الشيعة والأوزبك الترك، ستجَرّ إيران وتركيا بشكل شبه مؤكد إلى الطرف الآخر، ولا سيما إذا استأنفت السعودية دعمها لطالبان كوسيلة لمهاجمة إيران وتوسيع نطاق النفوذ الوهابي. أعتقد أن التوصل إلى توافق إقليمي قد ينجح في الضغط على طالبان ويدفعها إلى احترام الحكم الذاتي لمناطق الأقليات. لكنني لا أعرف إن كان سيتحقق ذلك يومًا ما.
يونغ: مع اقتراب موعدالذكرى السنوية العشرين لهجمات 11 أيلول/سبتمبر الشهر المقبل، ما هي برأيك العبر الأساسية التي يتعيّن على الأميركيين استخلاصها من تجربتهم التي تعصف بالصراعات في الشرق الأوسط الأوسع خلال هذين العقدين من الزمن؟
ليفن: كثيرة هي الدروس المستقاة من هذه المرحلة، وفي بعض الحالات تتكرر العبر التي كان على الولايات المتحدة تعلُّمها من أخطائها (وأحيانًا من جرائمها) خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي. أولًا، لا ينبغي الانشغال بعدو مرحلة معيّنة لدرجة التغاضي عن المصالح المهمة الأخرى. ثانيًا، يتعيّن على الولايات المتحدة توخي الحذر وعدم السماح للظن بأن عدوًّا ما هو الشرّ المطلق بأن يصبح مبرّرًا لممارستها أفعالًا شريرة ودعمها أنظمةً شريرة. ثالثًا، من المهم جدًا عدم إدراج دول وقوى عالمية شديدة الاختلاف ضمن معسكرٍ عدوٍ واحد يُزعم أنه متجانس. وهذا بالضبط ما فعلته الولايات المتحدة خلال العقود الأولى من الحرب الباردة (إلى حين قيام الرئيس ريتشارد نيكسون بزيارة الصين الشيوعية)، وكرّر بوش ذلك بشكل كارثي في نهجه المتمثّل بـ”محور الشر” واستخدامه الأحمق وغير الأخلاقي لهجمات 11 أيلول/سبتمبر لتبرير غزو العراق، الذي لم يكن له صلة لا من قريب ولا من بعيد بتلك الهجمات.
وتتمثل إحدى الطرق الرامية إلى تفادي ارتكاب هذا النوع من الأخطاء وحماية المنظومة الأميركية من هذا التلاعب في ترقية معرفة حقيقية بالدول والمناطق الرئيسة في العالم. هذا بالضبط ما تحدّث عنه دانيال إلسبيرغ حين كتب أنه عندما أرسلت الولايات المتحدة جيشها إلى جنوب فيتنام في العام 1965، لم يكن بمقدور مسؤول واحد في البنتاغون النجاح في امتحان حول التاريخ أو المجتمع الفيتنامي أو الثقافة الفيتنامية. والمُعيب أن المسؤولين الأميركيين الذين خططوا لغزو العراق كانوا يجهلون بشكل كامل ذلك البلد. وبعد 20 عامًا من القتال في أفغانستان، يفتقر الكثير من “الخبراء” الأميركيين الذين يلقون مواعظ حول هذا البلد إلى إلمام حقيقي به. وفي خضم حالة الهستيريا المحيطة بروسيا، تراجعت للأسف الدراسات الفعلية حول روسيا في الجامعات ومراكز الأبحاث الأميركية. وبالتأكيد هذه ليست الطريقة التي تدير فيها قوة عظمى استراتيجية عالمية فعّالة.