حميد الكفائي
لست بصدد استعراض تاريخ الديبلوماسية العراقية، فالمقال لا يتسع لذلك، لكن يجب القول إن وزارة الخارجية العراقية تمتعت طوال تاريخها بكادر ديبلوماسي كفوء، بينما كان وزراء خارجية العراق من الشخصيات المرموقة، مثل نوري السعيد وفاضل الجمالي وعبد الرحمن البزاز وشاذل طاقة وسعدون حُمّادي وعبد الله الدملوجي وعدنان الباجة جي (الإثنان أصبحا وزيرين في بلدين عربيين آخرين لكفاءتهما الاستثنائية). وحتى في زمن نظام صدام، كان هناك ديبلوماسيون متميزون كعبد الأمير الأنباري (خريج جامعة هارفارد عام 1959) ونزار حمدون وصادق المشاط وهشام الشاوي وعبد الحسين الجمالي ونجدة فتحي صفوة وبسام كبة. وعلى رغم أن بعضهم اضطر لمسايرة النظام، لكنه كان كفوءاً ومهنياً بالقدر الذي تسمح به الظروف السياسية.
إلا أن الوضع انقلب رأساً على عقب بعد 2003، فأصبحت المناصب الديبلوماسية «تُهدى» للشخص بسبب علاقته بهذا المسؤول أو تبعيته لذاك الحزب أو ترضية لهذا الزعيم أو ذاك، من دون أدنى اعتبار للثقافة والكفاءة والخبرة أو حتى اللغة الأجنبية التي يجب أن يجيدها الديبلوماسيون تحديداً، فمعظم السفراء الأجانب في العراق يجيدون العربية بطلاقة ويلقون الكلمات في المقابلات والمناسبات. إلا أن الخارجية العراقية تعمل خلافاً للمعايير المعمول بها عالمياً، إذ تُرسِل السفير إلى بريطانيا وأميركا واستراليا وكندا والهند وجنوب أفريقيا من دون أن يجيد اللغة الإنكليزية، وإلى فرنسا من دون أن يجيد الفرنسية، وإلى تركيا من غير معرفة بسيطة بالتركية، ولا يعرف حتى أبسط الأشياء عن ثقافة البلد الذي يعمل فيه، بل إن بعض السفراء يجهلون حتى «أتيكيت» الكلام والطعام وارتداء الملابس.
ونتيجة لهذه التعيينات العشوائية، ارتفع عدد منتسبي الخارجية العراقية من 1500 في عهد النظام السابق إلى 6 آلاف حالياً، ومعظمهم عُيِّنوا لأسباب لا علاقة لها بالخبرة والكفاءة، بل إن كثيرين منهم أبناء وأشقاء وأصهار وأقارب المسؤولين الكبار! كما جيء بكثيرين للعمل الديبلوماسي دون سابق خبرة أو تدريب وعُيِّنوا في مناصب رفيعة، لذلك تجدهم يجهلون أبسط واجباتهم. أحد السفراء تجول «متنكراً» في سفارته، بصحبة مصور، كي يطلّع على أداء موظفيه! ونشر هذا الخبر السار كي يبرهن على حرصه وتفانيه! سفير آخر ينشر صوراً لمأدبة إفطار كان قد حضرها بعد 6 أشهر على انقضاء شهر رمضان! آخر ينشر خبراً وصوراً بأنه استقبل طالباً عراقياً يدرس في تلك الدولة. آخر ينشر صورة له أثناء زيارته سفيراً عراقياً آخر في بيته ويعتبر ذلك إنجازاً يستحق النشر على موقع السفارة!
لقد تحدثت مع رئيس الوزراء قبل عدة أشهر حول أداء الديبلوماسية العراقية وتضخم عدد الديبلوماسيين وتحول الخارجية إلى مؤسسة لتشغيل أقارب المسؤولين والمتنفذين وأتباعهم، وقد استغرب من تضخم العدد وأخبرني بأن موازنة الوزارة قُلِّصت إلى حدودها الدنيا بحيث لا يمكنها أن تتمدد مستقبلاً. كما تكلمت مع وزير الخارجية حول الأداء الديبلوماسي العراقي المتدني وكيف أن معظم السفراء والديبلوماسيين لا يجيدون التحدث باللغات الأجنبية، بينما يحاول بعضهم التحدث بلغة ركيكة ما يقلل من احترامهم وأهمية أقوالهم. السفارات والملحقيات والمراكز الثقافية أصبحت تهتم بالمناسبات الدينية وتقيم المآتم في المناسبات التاريخية بدلاً من التركيز على خدمة مصالح العراق. المندوبون العراقيون في المنظمات الدولية لا يتمتعون بالحد الأدنى للكفاءة المطلوبة، على رغم وجود مئات الأشخاص الأكفاء لشغل هذه المناصب.
في 2015، رشحت الحكومة العراقية أحد أكفأ سفرائها، وهو الدكتور حسن الجنابي، المتخصص بالمياه والأمن الغذائي العالمي والسفير السابق في منظمة «فاو» الدولية، ليترأس اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا)، باعتبار أن للعراق حصة في تعيينات طاقم المنظمة الدولية كبقية الدول الأخرى. سُلِّم الطلب العراقي حسب الإجراءات الأصولية إلى ممثل العراق في المنظمة الدولية آنذاك، محمد علي الحكيم. إلا أن الأخير أراد المنصب لنفسه، فلم يسلِّم الطلب إلى الأمين العام كما يحتِّم عليه واجبُه الوظيفي، بل عاد إلى بغداد ومارس ضغوطاً على الحكومة، مستفيداً من قربه العائلي من أحد قادة الأحزاب ومدعياً أن العراق لن يحصل على المنصب إن لم يترشح هو شخصياً له! وبسبب ضعف الحكومة وغياب المهنية والعدالة، استجابت وزارة الخارجية وألغت ترشيح الجنابي مستبدلة إياه بالحكيم، الذي فاز بالمنصب بما يشبه (اليانصيب)، إذ صادف ترشُّحه مع بدء ولاية الأمين العام الجديد للأمم المتحدة وتقديم مديرة إسكوا الدكتورة ريما خلف استقالتها إثر تعرضها لضغوط لسحب تقرير يدين إسرائيل. وعند زيارتي موقع إسكوا على الإنترنت قبل أيام، وجدته حافلاً بصور الحكيم وكأنه موقع لحزب سياسي عراقي وليس منظمة دولية. لم تحترم الخارجية العراقية خيارها الأول، حسن الجنابي، والذي كان منسجماً مع المَهَمَّة الاقتصادية للجنة إسكوا، بالإضافة إلى إجادته أربع لغات عالمية، فرشحت شخصاً ليس من أهل الاختصاص أو الكفاءة لمنصب دولي رفيع. أما قائمة المرشحين لمنصب سفير الأخيرة فتكاد تخلو من الكفاءات المطلوبة بينما تحفل بأخ فلان وصهر فلان وتابع فلان.
وعند المنافسة على منصب المدير العام لليونسكو، رشحت الحكومة العراقية شخصاً لا علاقة له بالثقافة، وهو وزير الصحة السابق صالح الحسناوي، الذي كان قد لجأ إلى «الحلول العشائرية» لحسم خلاف بينه وبين مفتش عام وزارة الصحة، عادل محسن، إذ اجتمع شيوخ عشيرتي المسؤوليْن العراقييْن المرموقيْن وتوصلا إلى اتفاق ينهي الخلاف بينهما، وهذا «الصلح العشائري» موثق بالفديو وموجود على اليوتيوب. منظمة اليونسكو معنية بالثقافة والتراث والفنون، فكيف يتمكن شخص بهذه المواصفات أن يخدم الثقافة العالمية؟ وكيف يحترم العالم رأي العراق مستقبلاً إن كانت قراراتُه تتخذ بهذه الطريقة؟ والطريف أنه عندما سحبت الخارجية مرشحها من المنافسة النهائية لليونسكو، أصدرت «لجنة الصحة البرلمانية» بياناً تحتج فيه على سحب ترشيح الحسناوي!
الأداء الديبلوماسي العراقي تدنى إلى حدود مريعة، واستبدال هوشيار زيباري بإبراهيم الجعفري وزيراً للخارجية لم يوقِف هذا التدهور. نعم، تحسنت علاقات العراق العربية والدولية، لكن التحسن لم يأتِ نتيجةً لكفاءة الطاقم الديبلوماسي، بل لتغير سياسة الحكومة تجاه هذه البلدان. يجب ألا نتوقع تحسناً في أداء العراق في المحافل الدولية إن لم يؤتَ بالأكفاء للعمل في المنظمات الدولية والسفارات.