أسلوب الحدود الدنيا في فيلم “الكلمة” للدنماركي كارل دراير
يكتفي بأن يجعله في أقل من 150 لقطة وهو الأكثر ميتافيزيقية في تاريخ السينما
إبراهيم العريس باحث وكاتب الأحد 24 أكتوبر 2021 16:59
مشهد من فيلم “الكلمة” (موقع الفيلم)https://1e7020fb91a7d1c7020b2c03823f3c16.safeframe.googlesyndication.com/safeframe/1-0-38/html/container.html
هو من دون أدنى ريب واحد من الأفلام الأكثر ميتافيزيقية في تاريخ السينما العالمية. وللبدء بالإشارة إلى هذا، قد يكون ثمة توضيح لا بد منه، وهو أن الفيلم إذ حمل في نهاية الأمر عنوانه الذي سيُعرف به منذ ثلاثة أرباع القرن، “الكلمة”، فإن مخرجه كان يريد في الأصل أن يعطيه عنواناً إنجيلياً خالصاً هو تلك العبارة التي بافتتاحها الكتاب المقدس، كان من شأنها أن تعطي ميتافيزيقيته طابعاً دينياً: “في البدء كان الكلمة” لكنه أحجم في اللحظات الأخيرة وحسناً فعل. فهو إذ اكتفى باستخدام العنوان الذي كانت تحمله مسرحية الكاتب القسيس كاي مونك في الأصل، أنقذ فيلمه من صدام مع الأوساط الكنسية كاد يودي بالفيلم. وبالتحديد لأنه جعل ميتافيزيقية الفيلم إيمانية من دون أن تكون دينية. ففي نهاية الأمر، لا يمكن اعتبار فيلم دراير هذا فيلماً دينياً أو دعوة إلى الدين، بقدر ما يجب اعتباره فيلماً روحياً يربط الإنسان بالإيمان في علاقة شديدة الخصوصية.
تجوال أوروبي
والحقيقة أن ذلك ما كان عليه هوى دراير السينمائي سواء حقق أفلامه – ومن أبرزها “آلام جان دارك” و”فامبير” و”يوم الغضب” وأخيراً “جيرترود” خاتمة نتاجاته عام 1964 – في وطنه الدنمارك أو في السويد أو النرويج أو فرنسا أو ألمانيا وغيرها، أو حققها للسينما أو لاحقاً للتلفزة، بمواضيع من ابتكاره أو مقتبسة. ودائماً ما كان دراير يستحوذ، على أي حال، على المواضيع فتصبح جزءاً من لغته الفكرية التي كثيراً ما أثارت الجدال وأغضبت حتى المتناقضين في ما بينهم إلى أي طرف انتموا. كانت سينما دراير سينما شديدة الخصوصية، وظلت كذلك طوال الأعوام الـ 44 التي نشط فيها في هذا المجال، محققاً نحو 20 فيلماً متفاوتة الطول، يمكن القول إن “الكلمة” (1955) يبقى أشهرها وأقواها، وبالتأكيد الوحيد بين أفلامه الذي جمع بين النجاح النقدي والنجاح الجماهيري، ناهيك بإجماع كبار مجددي فن السينما في العالم على تقييم فنه عالياً، هو الذي قال عنه الفرنسي إريك رومر يوم كان من نقاد “كراسات السينما”: “يحمل دراير إرث الحقبة الكبرى من تاريخ السينما الألمانية، بحيث كان يمكننا أن نصف فنه السينمائي بأنه تعبيري حقيقي، لولا أن هذا التوصيف فقد شيئاً من بريقه”.
قضية أسلوب
ولعل المهم في كلام رومر عن دراير هو تأكيده على أن أول ما يجابهنا منذ الصور الأولى في “الكلمة”، هو بالتحديد قضية الأسلوب أكثر مما نتجابه مع مسألة الموضوع على خطورته، فلعل العلامة الأساس في هذا الفيلم الذي دارت النقاشات دائماً من حول موضوعه والفكرانية التي تقف في خلفيته، وهي نقاشات شارك فيها رجال دين وعلمانيون وليبراليون، كان لكل منهم موقفه الحاد والحاسم المتناقض كلياً مع مفاهيم مساجليه، العلامة الأساس هي اللعبة الشكلية التي اعتمدها المخرج، لعبة تقوم على الحدود الدنيا سواء كان ذلك في استخدام الديكور أو الأكسسوارات أو الحوارات أو التمثيل أو تعبيرات الوجوه، ولكن وصولاً حتى لحظات الفيلم الأخيرة فيأتي تصعيد نهائي ينسف ذلك كله… كما سنرى في السطور التالية.
خلافات طائفية
قبل ذلك، لا بد من العودة إلى موضوع الفيلم نفسه، وهو يدور أحداثاً في منطقة نائية في جزيرة غوتلاند، حيث يعيش سكان مجدون في حياتهم وعملهم، وربما تستبد بهم توزعات طائفية ودينية لا يسمحون لها على أي حال بأن تمزقهم طالما أنها لا تصل إلى حدود العنف أو الخطر في ما بينهم. والأحداث التي تدور أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، أي في الزمن الذي كتب فيه مونك مسرحيته وقدمها، فحظيت باهتمام ونجاح كبيرين، تدور تحديداً حول أسرة المزارع مورت بورغن، المؤلفة أساساً منه ومن أبنائه الذكور الثلاثة: البكر ميكيل، المتزوج ورب أسرة تضم ثلاث فتيات والأم إنغر التي تنتظر طفلها الرابع، والأوسط يوهان الذي يُنظر إليه على أنه خيبة العائلة من جراء “بله” يدفعه إلى الاعتقاد بأنه صاحب رسالة سماوية بل هو، حتى، المسيح المنتظر. فيمضي أيامه متجولاً في البراري والغابات، مستلهماً إيحاءات غامضة تسيطر على فكره وحياته، ناشراً نبوءاته بين القوم. أما الثالث الصغير أندريس، فيعيش حياة طبيعية مغرماً بحبيبته الصبية آنا ابنة خياط القرية. مشكلته أن هذا الأخير ينتمي إلى طائفة دينية تعيش حالة عداء مع الطائفة التي ينتمي إليها بورغن على الرغم من أن الطائفتين لوثريتين، أي بروتستانتيتين.
اقرأ المزيد
- أليك بالدوين يقول “قلبي ينفطر” بعد قتله مديرة تصوير فيلمه
- “متروبوليس” الفيلم الذي حير المؤرخين وأرسل مخرجه إلى المنفى باختياره
- عندما احتفل سكورسيزي بمئوية السينما والتحليل النفسي في فيلم واحد
عندما تحل المأساة
وينتج من ذلك، طبعاً أن الأبوين معاً يرفضان زواج الحبيبين. لكن الذي سيحدث عند ذلك أن إنغر الحامل زوجة ميكيل تموت وهي تضع طفلتها، كما تولد الطفلة ميتة ويسود الحزن البيتين، كما يستولي على الأب والزوج المفجوع وأبيه والباقين. ولسوف تكون المأساة من التأثير إلى درجة أنها تدفع بورغن والخياط إلى الصلح في ما بينهما، ويوافقان معاً على ارتباط آنا بأندريس. والحقيقة أنه كان يمكن للمأساة أن تقف عند ذلك الحد لولا أن الأخ الغارق في خيالاته الميتافيزيقية، يحزن أكثر من الجميع لما حدث لزوجة أخيه، معتبراً أنهم جميعاً أناس فقدوا إيمانهم ولذلك حلت بهم المصيبة، فلو كانوا مؤمنين لتمكنوا من الحيلولة دون حصول ما حصل. وهو إذ يقول هذا يخرج هائماً على وجهه في هدأة الليل، هارباً من كل تلك الحياة العائلية التي بات يرى أنها غير جديرة بأن تُعاش. غير أنه سرعان ما يعود بعد قليل، تحديداً في اللحظة ذاتها التي كان فيها غطاء تابوت إنغر يُغلق تمهيداً لدفنها. وهنا يقوم يوهان من جديد بتقريع أخويه وأبيه وكل الحاضرين، متهماً إياهم بالافتقار إلى الإيمان الحقيقي، فـ”لو كنتم تؤمنون، كان من شأنكم أن تسألوا العناية الإلهية إعادة الشابة الميتة إلى الحياة”. وإذ يصمت الجميع هنا غير قادرين على قول أي كلمة أو القيام بأي فعل حقيقي، تصرخ ابنة الميتة الصغرى طالبة من عمها وبإلحاح أن يقوم هو بنفسه بما يتهم الآخرين بالاستنكاف عن فعله. “لم لا تعيدها أنت إلى الحياة بقوة إيمانك يا عمي؟”. تسأله الفتاة بإيمان وثقة لا بتحدٍّ وغضب، فلا يكون منه إلا أن يقدم معيداً إنغر إلى الحياة بالفعل بقوة… الإيمان والكلمة، وكما فعل السيد المسيح قبل زمن طويل بقوة الإيمان والكلمة.
تجديدات شكلية مدهشة
تلك هي، باختصار الخطوط الأساسية لموضوع هذا الفيلم. ولكن هنا لا بد من العودة إلى أن الموضوع على أهميته وقوته، يظل غير أساسي في فيلم وجد مبدعه أنه قادر من خلاله أن يراكم كل ما كان سبق له أن اختبره من لغة سينمائية، أتت دائماً بسيطة إلى الحدود القصوى حتى وسط مواضيع بالغة التعقيد والتركيب. ومن ثم نجده هنا يكتفي بأن يجعل الفيلم في أقل من 150 لقطة، في وقت كان الفيلم العادي ومهما بلغت قوته أو ضعفه، يتألف من حوالى ألف لقطة (مثلاً في لقطة مقتلة الحمام في فيلمه “بسايكو”، قسّم هتشكوك المشهد الواحد إلى نحو 300 لقطة). وصوّر دراير لقطات بحركة كاميرا بطيئة ومتواصلة قد تتواصل نحو 7 دقائق. وإلى هذا نراه على سبيل المثال يخفض من عدد الأدوات في مشهد المطبخ إلى حدود دنيا لا تصدق، إذ يُروى أنه في ذلك المشهد بالذات طلب من منسق الديكور أن يرتب مطبخاً حقيقياً بما لا يقل عن 100 أداة متنوعة، ثم بعدما اكتمل ذلك كله طلب منه إخراج معظم الأدوات والإبقاء على 15 أداة فقط بين صحن وكأس وسكين وطنجرة. ولسوف يقول دراير (1889 – 1968) لاحقاً: “لقد تعمدت في هذا الفيلم أن أبسّط كل شيء بصورة جذرية، بحيث لا يبقى داخل المشهد سوى الأغراض التي تعني حركة الفيلم وموضوعه مباشرة”. ولئن كان هذا ينطبق على تفاصيل الديكور، فإنه ينطبق أيضاً، وبصورة أكثر التزاماً، على كل العناصر الأخرى التي يتشكل منها هذا الفيلم. وهو الأسلوب الذي لا شك أثار إعجاب النقاد، وجعل هذا الفيلم يُعتبر واحداً من أقوى الأفلام في تاريخ السينما ومن أكثرها تجديدية على الصعيد الشكلي، ناهيك عن قوته التعبيرية وفرادته الميتافيزيقية.