بعد تقدمه بأوراق ترشحه.. من يقف خلف القذافي الابن؟
بعمامة رأس بنية، وجلباب أشبه بعباءة والده، ولحية كثيفة خطها الشيب، متوسطًا مسؤولي مفوضية الانتخابات ومحاميه الخاص، ظهر سيف الإسلام، نجل الزعيم الليبي المخلوع معمر القذافي، متقدمًا بأوراق ترشحه لرئاسة بلاده في الانتخابات المقررة نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول المقبل.
وخلافًا لما هو معتاد ومتوقع، فبعد غياب دام لسنوات، لم يخاطب سيف الإسلام الشعب الليبي ولا حتى أنصاره، مكتفيًا بابتسامة عريضة وترديد آيات قرآنية: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} و{واللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}، مغادرًا منصة المفوضية، في مشهد أثار الكثير من الجدل.
وكما كان اختفاؤه مفاجئًا، كانت عودته هي الأخرى أكثر مفاجأة وغرابة في آن واحد، فقبل سنوات غادر هاربًا من ملاحقات قضائية في أعقاب إسقاط والده عن الحكم، ها هو اليوم يعود ليعود اسم والده مرة أخرى، لكن هذه المرة من الباب الكبير.. حكم ليبيا مرة أخرى وكأن شيئًا لم يكن.
اختيار القذافي فرع مفوضية الانتخابات في مدينة سبها التي تمثل ركيزة أساسية لأي تحالف قبلي في الجنوب الليبي الغني بالنفط والغاز، له رمزية ودلالة واضحة للمهتمين بالشأن الانتخابي، الأمر الذي دفع البعض لترجيح حظوظه في الفوز في الانتخابات المقبلة، رغم العوار القانوني لمسألة ترشحه من الأساس.
الحضور المفاجئ واللافت لسيف الإسلام لا شك أنه لم يكن اعتباطيًا ولا قرارًا فرديًا، بل كان يُجهز له منذ فترة ليست بالقصيرة، عبر قوى داعمة له، تسانده في إعادة استنساخ تجربة حكم والده، وفي تحول البلاد إلى ساحة كبرى لأجندات دولية عدة، وبات السؤال الملح الآن: من يقف وراء القذافي؟
شكوك قانونية
جدل قانوني أثاره القذافي بتقديم أوراق ترشحه، الجدل تعمق أكثر مع قبول أوراقه ليصبح مرشحًا رسميًا، رغم الأحكام والقرارات الصادرة بحقه، داخليًا وخارجيًا، التي من المفترض أن تضعه على قائمة التوقيفات، فضلًا عن خطوة الترشح لانتخابات رئاسة البلاد بأريحية كاملة محاطًا بنخبة من قيادات الدولة السياسية والأمنية والقانونية.
في عام 2015 حكم القضاء الليبي على سيف الإسلام بالإعدام رميًا بالرصاص، “لتورطه بارتكاب جرائم حرب” لقمع الانتفاضة التي أطاحت بنظام والده، لكن كعادة الأنظمة العربية، لم ينفذ الحكم، ليبقى الرجل هاربًا، مختبئًا عند إحدى الجماعات المسلحة في البلاد.
وسبق أن أصدر مكتب المدعي العام العسكري بطرابلس مذكرّة لضبطه، بعد ظهوره في مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز”، فيما أكدت المحكمة الجنائية الدولية أكثر من مرة على لسان المتحدث باسمها، فادي عبد الله، أن مذكرة التوقيف بشأنه لا تزال سارية المفعول، وأن “وضعية سيف الإسلام القذافي في المحكمة لا تزال كما هي، هو مطلوب وفقًا للمذكرة التي صدرت عام 2011”.
وفي 2017 أطلقت الجماعة المسلحة التي كان سيف الإسلام مختبئًا عندها سراحه وفقًا لقانون “العفو العام” المثير للجدل الذي أصدره البرلمان الليبي، غير أن إطلاق السراح – وبسبب مخاوف من إلقاء القبض عليه – لم يخضع لإجراءات قضائية حددها قانون العفو العام، كأن تصدر وزارة العدل أو المحكمة العليا (أعلى سلطة قضائية) أي قرارات رسمية ترفع عنه الأحكام الصادرة بحقه.
ورغم تلك المذكرات بحقه فإن المرشح الرئاسي المحتمل ظهر من خلال جهة حكومية رسمية (مفوضية الانتخابات) وحوله رجال الدولة (أفراد أمن ومأمورو ضبط قضائي) لهم كامل الأهلية في إلقاء القبض عليه، إلا أن ذلك لم يحدث، وهو ما اعتبره البعض إعلانًا ضمنيًا بقبول أوراقه رسميًا لخوض الماراثون الانتخابي القادم، وإن كان البعض ما زال يعول على موقف النائب العام واحتمالية أن يقلب الطاولة حال إصداره مذكرة اعتقال أو توقيف بحق سيف الإسلام.
الطريق ممهد
الظروف التي يعانيها الشارع الليبي خلال السنوات العشرة الماضية، حيث الانقسام الواضح بين شرق يسيطر عليه الجنرال خليفة حفتر، وغرب تحت إمرة الحكومة الشرعية المعترف بها دوليًا، وجنوب متأرجح بين هذا وذاك، كلها تصب في صالح نجل الزعيم الراحل.
تلك الوضعية الصعبة أفرزت شريحة ليست بالقليلة من الشعب الليبي ترفض كلا الطرفين المتنازعين، لتحن سياسيًا إلى الماضي الذي باتت تتحسر عليه، إذا قورنت أوضاعه بما آلت إليه اليوم، وهنا جاء سيف الإسلام الذي يمثل لهم عهد والده ويأخذهم بأحلامهم إلى ما كانت عليه بلادهم من رخاء اقتصادي واستقرار أمني ومجتمعي حتى لو كانت الأوضاع الحقوقية والسياسية تحت الأنقاض.
لا يمكن للقذافي خوض هذا المغمار رغم ما فيه من مخاطر واحتمالية تطبيق مذكرات التوقيف والاعتقال بحقه، إلا بعد ضوء أخضر حصل عليه من بعض القوى، لتأييده في هذا المسار
ومن هنا ربما يميل البعض إلى أن حظوظ سيف الإسلام في الوصول إلى السلطة أكبر من منافسيه، المختلف عليهم بالفعل، سواء كان حفتر الذي يعاني من انشقاقات كبيرة في صفوفه وتراجع الدعم الإقليمي الذي كان يحصل عليه، أم رئيس الحكومة الحاليّ عبد الحميد الدبيبة، الذي لا يتملك الكاريزما السياسية المستقلة التي تؤهله لقيادة البلاد وإقناع الشارع الليبي خلال المرحلة المقبلة.
وعليه فإن حالة الانقسام التي بات عليها المشهد الليبي تخدم في المقام الأول عودة القذافي الابن، وإن كان نجاحه في تلك الانتخابات – حال اعتماده مرشحًا بصورة رسمية – يعتمد على طبيعة الأوراق التي يملكها، داخليًا وخارجيًا، والدور الذي من الممكن أن يقوم به مستقبلًا، وملامح خريطة التحالفات المزمع الانضمام إليها للحصول على الدعم الدولي لخطوته المتوقع أن تقلب الطاولة برمتها، رأسًا على عقب.
من يدعم سيف الإسلام؟
نظريًا ربما تكون الانتخابات شأنًا داخليًا بامتياز، لكن في الحالة الليبية، كما السورية واليمنية والعراقية ومثلها السودانية والدول التي تعاني من أزمات داخلية وانقسامات سياسية، فإن الوضع يختلف، لتتحول تلك البلدان إلى ساحة معركة كبيرة للقوى الدولية التي تتصارع من أجل تعزيز النفوذ.
سياسيًا.. لا يمكن للقذافي خوض هذا المغمار رغم ما فيه من مخاطر واحتمالية تطبيق مذكرات التوقيف والاعتقال بحقه، إلا بعد ضوء أخضر حصل عليه من بعض القوى، لتأييده في هذا المسار، وليس شرطًا أن يكون هو مرشح تلك القوى الوحيد، فمن المحتمل أن تكون هناك رهانات عدة كما هو الحال في الوضعية المصرية تحديدًا، التي ربما راهنت على حفتر في البداية ثم اليوم قد تميل إلى الدبيبة ومع ظهور القذافي قد يتبدل الأمر، أو يكون هناك تنسيق مع كل تلك الأسماء في آن واحد.
الأيام القليلة القادمة ربما تحمل الكثير من المفاجآت، خاصة حال اعتماد ترشيح سيف الإسلام وعدم الطعن عليه، وهو ما قد يحول الماراثون إلى معركة تكسير عظام حقيقية، بين ليبيا القذافية وليبيا الثورة
وكما أن حفتر ورقة روسية مصرية إماراتية منذ الظهور الأول له كلاعب أساسي في الملعب الليبي، فإن سيف الإسلام اليوم قد يكون ورقة روسية قوية، يمكن استخدامها كرد على الخطة الأمريكية التي تستهدف مناهضة النفوذ الروسي في ليبيا عبر إجراء انتخابات رئاسية وحكومة شرعية، ومن المحتمل أن يكون أداةً فرنسيةً لتعزيز حضورها كذلك بنفس الوتيرة وذات السردية.
الخلفية السياسية لنجل القذافي وجذوره القبلية وإرث والده رغم ما عليه من غبار وجدل، كلها عوامل مساعدة قد تدفع به إلى مقدمة المشهد الانتخابي حال تشكيل موسكو حاضنة سياسية دولية له، عبر بوابات القاهرة وأبو ظبي وربما الرياض، الأمر الذي لن ترفضه حكومات تلك الدول، لكنه في الوقت ذاته ربما يزيد الوضع اشتعالًا خاصة بعد إعلان حفتر ترشحه للانتخابات رسميًا.
الأيام القليلة القادمة ربما تحمل الكثير من المفاجآت، خاصة حال اعتماد ترشيح سيف الإسلام وعدم الطعن عليه، وهو ما قد يحول الماراثون إلى معركة تكسير عظام حقيقية، بين ليبيا القذافية وليبيا الثورة، فيما يتوقع تغير واضح في أوراق اللعبة وملامح الخريطة السياسية، سواء على المستوى القبلي المحلي أم حلفاء الخارج.