تمّن العنبر العراقي… حكاية التاريخ والرائحة الفراتية
07 يناير 2022
على الرغم من اجتياح السوق العراقية أصناف كثيرة ومتنوعة من الأرزّ خلال السنوات الماضية ومن مناشئ عدة، إلا أن أرزّ العنبر العراقي المعروف برائحته المميزة لا يزال المطلوب الأول على موائد العراقيين، حتى مع توجه وزارة الزراعة إلى تقليل مساحات الأراضي المزروعة منه، بفعل أزمة المياه وتراجع مستويات نهري دجلة والفرات.
يعتبر العراقيون من أكثر شعوب المنطقة استهلاكاً للأرز، بأكثر من مليون و600 ألف طن سنوياً، وفقاً لتقديرات مسؤولين في وزارة التجارة أكدوا أن العراق لا ينتج أكثر من ربع هذه الكمية والبقية تستورد من دول عدة. وتعتبر مدينة النجف ومحافظات واسط والقادسية وذي قار وميسان من المناطق الأكثر إنتاجاً لأرز العنبر في البلاد.
ولا يقتصر إعداد أرز العنبر العراقي على طريقة واحدة ولا على وجبة طعام واحدة، إذ يمكن تناوله على العشاء والغداء أو حتى الفطور، عبر الحساء الشهير المعروف في العراق بـ”شوربة التمّن”.
ويطلق العراقيون اسم “التمّن” على الأرز، وهو مصطلح شائع يختلف مؤرخون وباحثون في سبب التسمية. وكان أرز العنبر يصدر للخارج، لكن تراجع زراعته جعلته مقتصراً على الاستهلاك الداخلي. ويطلب المغتربون هدايا “تمن العنبر” على قائمة ما يتمنون إيصاله إليهم من القادمين من العراق.
يمكن طهي العنبر العراقي بالطريقة العادية التي تعرف محلياً بـ”البزل” أو بالتبخير أو التنقيع، ما يدخل كعنصر رئيس في إعداد وجبة الدولمة العراقية الشهيرة، وكذلك كبة الموصل وكبة السراي وكبة النجف، وهي أشهر الأكلات الشعبية في العراق القائمة على هذا النوع من الأرز، ولو أُعدت بغيره ما حصلت على الطعم الأصلي نفسه الذي يحرص الناس على تذوقه.
ويقول الباحث العراقي علي الجبوري، لـ”العربي الجديد”، إن مساحات زراعته (الأرز) تراجعت في المنطقة الوسطى والجنوبية من العراق، بسبب شح المياه وقلة الأمطار، فصار العنبر لا يكفي للداخل العراقي الذي يطلبه بكثرة. ويشير إلى أن العراقيين “من أوائل الشعوب التي زرعت محصول الأرز قبل الهنود والآسيويين”، والبعض من الباحثين يعتقدون أن كلمة “التمّن” لها أبعاد تاريخية ويرجعونها في الأصل إلى الحقبة السومرية. ويوضح الجبوري أن “ياقوت الحموي (من أشهر جغرافيي الحضارة الإسلامية)، يرى أن العراقيين أول من زرعوا الأرز، والعرب سمّوه أرزاً كونه نوع من أنواع الحبوب. والمصادر تؤكّد أن العرب قبل أن يستحسنوا طعم الأرز كانوا يخافون منه، حين خزنه أهل البصرة في العنابر، لأنهم اعتقدوا أنه سمّ، لكن حصاناً تناوله، فزاد نشاطاً، فاستطعموه”.علوم وآثار
قصر العطشان… معلم مُهمَل وسط كربلاء
لكن أستاذ التاريخ حسين الإمارة يؤكد أن سبب التسمية لم يكن وليد التاريخ البعيد، بل هو قريب في القرن العشرين وأيام الحرب العالمية الأولى. ويقول الإمارة إن أهل البصرة رفضوا تموين قطعات الجيش البريطاني بكميات من الأرز تكفي لسدّ حاجة الجنود، فكتب الماريشال البريطاني إلى وزارة الدفاع في إنكلترا لتزويدهم بالأرز المطلوب، وهو ما حصل، إذ أرسلت كميات كبيرة من الأرز الفاخر المسمى “بسمتي” معبّأة في أكياس ثقيلة، وفي منتصف الكيس خطّ أحمر مرسوم عليه شكل كارتوني لعشرة رجال يمسك أحدهم يد الآخر، وكتب تحت الرسم Ten Men (عشرة رجال)، فوقعت في أذن العراقيين الكلمة، وتحولت إلى “تي من”، ثم دمجت في كلامهم، لتكون “تمّن”، ولتسري هذه التسمية على أنحاء العراق كافة.
ويتحدّث الكاتب علي الأسدي عن “تمّن” العنبر، فيقول إنه من أجود أنواع الأرز في العالم، و”إذا ما سافرت إلى منطقة المشخاب، جنوبي العراق، مثلاً، وهي الأشهر في زراعة هذا النوع، فإن رائحته تشمها على بعد عدة كيلومترات، وتميّزها من بين عشرات الروائح لأنواع عديدة من المزروعات”. ويضيف الأسدي أن “تمّن” العنبر لشهرته تطلبه دول الخليج كما يصدر إلى بريطانيا، وخاصة في زمن احتلالهم مطلع القرن الماضي، لما يمتلك من قيمة غذائية وطعم لذيذ ورائحة تعم البيت كله.
ويعتقد الأسدي أن هذه الميزة في أرز العنبر جعلت الكثير من الشعراء يكتبون عنه كمرادف للجمال والحب والعشق والهوى. ويورد على ذلك ما قاله الشاعر المعروف رضا الهندي، في قصيدته بمديح الإمام علي بن أبي طالب: “عجباً من جمرتِهِ تَذكو، وبها لا يحترقُ العنبرُ”. وفي بيت شعري آخر يغنيه المطرب الراحل ناظم الغزالي، وهي أبيات لابن ياقوت: “له خالٌ على صفحات خدّ كنقطة عنبرٍ في صحنٍ مرمر”.