1

العراق .. تسعينيات القرن الفائت العائدة

آراءعمار السواد

17 يناير 2022ا

+الخط

الصدريون، وفي مقدمتهم زعيمُهم مقتدى الصدر، ظاهرةٌ شعبوية عراقية مِن وجهة نظر كانت تتمسك بها النخبُ المنتمية إلى الإسلام السياسي الكلاسيكي، الشيعي تحديداً. لهذا، تم التعامل معهم بُعيد عام 2003 على أنّهم إسلاميون مِن الدرجة الثانية. تعمّقت هذه الرؤية بعد جريمة قتل عبد المجيد الخوئي نجلِ المرجع الديني السابق، أبو القاسم الخوئي، والمتهمُ بقرار قتله مقتدى الصدر. 
هنا انقسمت الشيعيةُ السياسية “الكلاسيكية” إلى ثلاثة أقسام؛ المجلسِ الأعلى بقيادة عبد العزيز الحكيم، حزبِ الدعوة وأبرز شخوصه حينئذ رئيسُ الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفري، وحزبِ الدعوة “تنظيم الداخل” بزعامة هاشم الموسوي. القسم الأول نظر إلى الصدريين بكراهية، وسعى عبد العزيز الحكيم، زعيمُ المجلس آنذاك، بكلّ ما امتلك من نفوذ، إلى إبقاء الصدريين بعيداً عن المعادلة السياسية. 
أذكر حين كنت مراسلاً لوكالة أنباء عربية، وتحديداً نهايةَ عام 2003، أنّ وائل عبد اللطيف، وهو قاض شغل منصب محافظ البصرة وعضو مجلس الحكم وقتها ثم صار وزيراً في حكومة إياد علاوي، أخبرني أنّ المجلس الأعلى لم يدّخر جهداً لعدم إشراك الصدريين في الحياة السياسية، بمعنى إبقاء الصدريين حالةً مارقة عن الولاء الشيعي للعملية السياسية الجديدة.
هذا الوضع جزءٌ من إرث تسعينيات القرن الماضي، حين استعر العداءُ بين المرجع محمد الصدر، والد مقتدى، وإيرانَ والمجلسِ الأعلى الموالي لها. وسبب العداء أنّ الصدر نادى بولاية الفقية القُطرية أو المحلية ضد ولاية الفقيه العابرة الحدود، وطرح نفسَه وليّاً فقيهاً مقابل مرشدِ الثورة في إيران علي خامنئي. وكان رموزُ المجلس الأعلى، وبينهم صدر الدين القبنجي، يشنّون حملات ضد الصدر الأب، ويعتبرونه مجرّدَ أداة بيد نظام الرئيس الأسبق صدام حسين. ولهذا حكاية تحتاج مجالاً آخر للحديث عنها.

أصبح مقتدى الصدر اللاعبَ الأول في الحياة السياسية، لا منازع له. زعيم قادر على تحريك جمهوره العريض بطريقته، وصاحب الكلمة الفصل

في الطرف الآخر، نظر حزبُ الدعوة إلى الصدريين نظرة استعلاء واستثمار في آن. احتوى الدعاةُ الصدريين بعد هروبهم من العراق عام 1999 إلى إيران وسورية، أو هكذا ظنوا. وكانوا يظنون أنّهم مفيدون لبناء شعبيةٍ لم يكونوا يمتلكونها في البلاد، غير أنّ منظارَهم كان نظرةَ النخب إلى “العامة”. وفعلاً استفاد الحزب من الصدر كبيضة القبّان أكثر من مرة، منذ عام 2005، لترجيح كفّة مرشحهم لرئاسة الوزراء على حساب مرشّح المجلس الأعلى. 
حزب الدعوة تنظيم الداخل هو انشقاق على الحزب الرئيس نهايةَ تسعينيات القرن الماضي، كان أقربَ إلى الصدريين مِن الآخرين. إلى درجة أنّه، خلال معركة النجف ضد جيش المهدي عام 2004، ظلّ عبد الكريم العنزي القيادي البارز في تنظيم الداخل والاسم المقرّب جداً من إيران في سعي دؤوب إلى منع تدمير الصدر. وكان هو وأبرزُ مؤسّسي البيت السياسي الشيعي أحمد الجلبي وسيطين رئيسيين لإشراك الصدر في الحياة السياسية. 
بعد أكثر من 18 سنة، أصبح مقتدى الصدر اللاعبَ الأول في الحياة السياسية، لا منازع له. زعيم قادر على تحريك جمهوره العريض بطريقته، وصاحب الكلمة الفصل، إذ يحجّ إليه في النجف كلُّ السياسيين، بعدما كان حجيجُهم إلى المرجع علي السيستاني. لم يعد بيضة القبّان، بل صاحب القرار. لم يعد الزعيم الشاب، ولم يعد مجردَ قائد مليشيا، بل قوة لا يمكن التعامل مع العراق إلّا بالتعامل معها. هو وجمهورُه امتداد عراق التسعينيات، عراق الحصار، عراق صدّام المنكسر والمهزوم والموجّه بعاطفة دينية، بما يعنيه ذلك مِن شعبويةٍ وعنفٍ وحرمانٍ ومحاولة للتعويض عن الخسائر وانكسارات يريد المصابون بها أنْ يستردوا هيبتهم.
حاول الصدر على مرّ الفترة الماضية أنْ يلعب دوراً لم يعتد عليه، قدّم نفسه رجلاً معتدلاً. أخبرني ناشط التقى مقتدى الصدر عام 2015، برفقة آخرين، أنّهم، حين كانوا مجتمعين في غرفة بفندق بعد اللقاء، سمعوا الباب يطرق، وحين فتح أحدُهم الباب وجد شاباً يحمل كيساً أسود، أبلغه أنّ “السيد” أرسل إليه وإلى صحبه قناني مشروبات كحولية. يقول صاحبي إنّه استغرب، معلقاً لمن كانوا حوله في الغرفة إنّ الرجل يظن أنّ العلمانية مجردُ نزوة. هو وعدد من زملائه الناشطين في تظاهرات عام 2015 كانوا مدعوين إلى النجف للقاء الصدر. ذهبوا بحماس للقائه، لم يروه “وطنياً” فحسب، بل وجدوه متفهماً علمانيّتهم كذلك. كان صاحبي الناشط ساخراً من الحال، لكنّه أصر على أنّ زملاءه لم يكونوا كذلك، ليس بسبب الخمر المرسلِ إليهم في جنح الليل، بل بسبب مقولات الصدر الجديدة.

قدّم الصدرُ نفسَه خلال السنوات الأخيرة خصما للذهنية المليشياوية، حاول احتواء المختلفين أيديولوجيا معه وتقبلهم، دافع عنهم

ذهب الصدر إلى أبعدَ من ذلك، ففي نهاية عام 2015 أو بداية العام اللاحق له، دافع عن ضرورة التعامل مع الأشخاص المثليين بطريقة قانونية ووفق منطق “إنساني”. شجّع هذا كله التعامل مع الرجل وتياره بطريقة مختلفة من الأقلية “العلمانية” ذات التأثير البالغ في حراك العراق. وهنا، لا نتحدّث عن زعيم سياسي بشعبية مؤقتة، كنوري المالكي، بل عن شخصيةٍ لها شعبية ذات جمهور يتبعه في أيّ ظرف، ومهما كانت عقائده وشعاراته، إلى درجة أنّ بعضَ جمهوره يقبّل عجلات سيارته. 
قدّم الصدرُ نفسَه خلال السنوات الأخيرة خصما للذهنية المليشياوية، حاول احتواء المختلفين أيديولوجيا معه وتقبلهم، دافع عنهم. لكنّه في الجلسة الأولى لبرلمانٍ يمثل أكثريته الناجحة بالانتخابات نجاحاً حاسماً، أرسل نوّابه مرتدين أكفاناً بيضاء مكتوب على بعضها اسم “جيش الإمام المهدي عج” أي اسم مليشيا مثّلت واحدةً مِن أصعب لحظات سفك الدم العراقي وحرب الجماعات الخارجة عن الدولة ومعركة توازن الرعب، وهي المليشيا نفسها التي حلّها الصدر، وأسّس على أنقاضها مليشيا أخرى بمسمّى “سرايا السلام”. هذا هو المشهد العراقي، أكبر الكتل الفائزة تدخل البرلمان بأكفان مكتوب على بعضها اسم مليشيا سيئة الصيت، وفي الوقت نفسه، تقدّم نفسها خصماً للمليشيات الأخرى التي يسمّيها الصدر “القذرة”. 
منافساه الرئيسان، قائمة يقودها رئيس البرلمان الساعي إلى تقسيم العراق وتقديم نفسها زعيمةً سنّة البلاد، ورئيس وزراء سابق يعد أهم سادة خراب ما بعد خراب صدّام حسين، أيْ نوري المالكي، وهو الأب الفعلي للمليشيات الشيعية المناوئة للصدر، كونه المسؤولَ الرئيس عن تأسيس أهم أسمائها “عصائب أهل الحق” مستفيداً من انشقاق قيادات الصدر عن جيش المهدي، وهو أيضاً المؤسس العملي للحشد الشعبي كردة فعل على احتلال مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الأراضيَ العراقية، حين كان هو نفسه قائداً عاماً للقوات المسلحة.

امتداد لحالة عراقية لم يتم التأمل فيها طويلاً؛ حالةِ البلد المهزوم والمدمّر بعدما كان يحلم باستعادة نبوخذ نصر وحمورابي وسركون الأكدي وهارون الرشيد

نتائجُ الانتخابات حصيلةٌ عدة عوامل؛ أولها أنّ قانون الانتخابات الجديد، الذي دافع عنه مقتدى الصدر، كان مفصّلاً ليناسبه. هو قانون دوائر صغيرة، والمعمّم الوارث لآل الصدر هو الوحيدُ القادر على تجنيد جمهوره للتصويت بكثافة في دوائرهم الانتخابية. بذلك استفاد من مقاطعة شعبية واسعة لجأت إليها الأغلبيةُ الصامتة، حين لم تجد مَن يمثلها، أو فقدت ثقتها بحالة الوضع السياسي ونظامها. 
قد يُنظر إلى الأمر أنه انتكاسة للعراق، مشهدٌ شعبوي مشبع بأيديولوجيا السلاح الذي يحمل اسم السلام، إذ إنّ سرايا السلام المليشيا الأكبرُ والمقدمةُ نفسها كمعتدلة ضد قتلة إيران في العراق، على الرغم من أنّ قادة جلّ القتلة جاءوا من خلفيات صدرية. هو ليس انتكاسة، هو امتداد لحالة عراقية لم يتم التأمل فيها طويلاً؛ حالةِ البلد المهزوم والمدمّر بعدما كان يحلم باستعادة نبوخذ نصر وحمورابي وسركون الأكدي وهارون الرشيد. الشيعية السياسية “الكلاسيكية” جاءت من خارج التسعينيات، قفزتْ عليها، عادتْ إلى السبعينيات وبداية الثمانينيات يوم غادرت العراق. لهذا لم تكن معنيةً بما جرى بعدها، لم تفهمها، لم تدرك تداعياتها وما تركته من خدودٍ في الروح العراقية التي أنتجت أغنية البرتقالة ذات الإيقاع المختلف تماماً عن إيقاع الأغنية التقليدية العراقية، الأغنيةِ الحزينة.
الصدر هو الممثل الأهم لتلك المرحلة، مرحلة لا سياسة فيها، بل مقولات عريضة وعقائد متخمة ومعاناة حافرة في الذاكرة. حين أسّس جيش المهدي، لم يتردّد أن يُلبِس أفرادَه الرداءَ الأسود، لم يكن مهتما بالتشابه مع رداء خصمه تنظيم القاعدة، لأنّ الاثنين حملا روح مليشيا “فدائيي صدّام” مليشيا الملثمين مرتدي السواد.

قيادة كانت شابة، مليشياوية، خلفها جمهور عريض من “غير المنطقيين” وأصبحت الآن في المركز

صحيحٌ أنّ تاريخ العراق الجمهوري كان صعباً، مليئاً بالدم، غير أنّ ما جرى في تسعينيات القرن الماضي مختلف، حالة ذات خيارات وسيناريوهات وأوضاع لا تشبه ما مرّ به مِن قبل، ولا تشبه ما حصل بعد. هذه المرحلة تلقي بظلالها الآن، ليس مِن خلال الجوع والفقر، بل عبر مَن كانوا جياعاً وفقراء ومعدمين… الأمر يشبه الثورة الفرنسية، مقاصلها أقامها الفقراء، على الرغم من مساعي نخبها رفع النسق العام لتفكير المجتمع. بالطبع، هي ليست ثورة، ولا فولتيرَ في العراق كما لا روسّو، لكن هناك شعبوية تحوّلت إلى مليشياوية، قتلتْ، آذتْ، ارتكبتِ الهوائل، وهي الآن حاضرة على رأس البرلمان، معلنةً بلا تردّد انتماءها لجيش المهدي.
الصدر في هذه المعادلة لا يَنظر إلى إدارة الحكم في بغداد فقط، هو يريد النجف أيضاً، ينتظر رحيلَ السيستاني، وجميعَ الأربعة الكبار الذين رحل أحدُهم قبل أكثر من عام، المرجعُ محمد سعيد الحكيم، كي يقدّم نفسه منافساً على ميراثه الأسري. يريد حكمَ الأكثرية الذي كان معارضاً له قبل ثمانية أعوام، وإبعاد الخصوم الشيعة، ليكون زعيم الطائفة الوحيد، حسن نصر الله العراق، كي يفرض رأي الأكثرية. كيف سيكون ذلك؟ معرفة الجواب صعبة، وخيارات الآخرين، وفي مقدمتهم إيران، تبدو الآن مربكة.
في النهاية، هناك قيادة كانت شابة، مليشياوية، خلفها جمهور عريض من “غير المنطقيين” وأصبحت الآن في المركز. هذا ليس نجاحاً للصدر بقدر ما هو استحقاق عراقي لا يمكن إعادة بناء البلاد من دون فهمه واكتوائها بناره، كما اكتوت بنيرانٍ أخرى وآخرين. ستتعلم أم لا؟ سؤال تقول التجربة إنّ الدروس القاسية لم تؤدِ إلى نتائجها اللازمة.

التعليقات معطلة.