بين العراق ويهوده السّابقين: عندما لا يكون الحنين مجدياً (٣-٤)
22-03-2022 | 04:00 المصدر: النهار العربي
ساسون حسقيل
A+A-مثّل الاحتلال العسكري البريطاني للعراق في الحرب العالمية الأولى، وتحوّل هذا الاحتلال الى إدارة مدنية بعد الحرب ثم تشكيل الدولة العراقية، تحولاً هائلاً في قصة العراق ومعنى الهوية فيه. كممثلين منتصرين للحداثة الأوروبية، أجرى البريطانيون تحديثاً كبيراً في النظام السياسي في البلد، عبر تحويله من طبيعته الرعوية السابقة، التراثية الروح في العهد العثماني، حيث الراعي الذي يملك ويحكم على نحو مطلق، والرعية التي تسمع وتطيع، إلى نظام جديد تعاقدي تحكم فيه نخبة سياسية شعباً متنوعاً على نحو مشروط في إطار التزامات متبادلة بين الاثنين. حتى وإن لم تتأطر هذه الالتزامات تأطيراً مؤسساتياً رصيناً، اعتبرت تجربة الدولة، في ظل إشراف عسكري، ثم انتدابي، بريطاني تقدماً لافتاً مقارنة بالجمود العثماني العام.
في سياق هذه التبدلات المهمة، برز دور اليهود العراقيين، بسبب مهاراتهم المناسبة في تجربة التحديث هذه والحاجة البريطانية لمثل هذه المهارات، فضلاً عن الرغبة اليهودية العامة بأن يقود هذا التحديث الى مساواة حقيقية في إطار مفهوم الشعب ليرفع عنهم التمييز الاجتماعي وحس الاستعلاء الديني، التقليدي إسلامياً، بإزاء اليهود عموماً، الذي غالباً ما كان يتحول الى شيطنة ورفض لهم.
تُجمع المصادر البريطانية من تلك الفترة على أن اليهود كانوا من أفضل الموظفين العراقيين وأكثرهم كفاءة، بسبب معرفتهم باللغات الأجنبية ودراستهم المدنية العالية الجودة عبر منظومة مدارس الأليانس. في ظل إدارة بريطانية هيمن عليها موظفون هنود غرباء عن تقاليد البلاد، كان يشتكي منهم السكان المحليون، وشح الموظفين العراقيين المسلمين المتعلمين تعليماً حديثاً، ظهر تمثيل اليهود في الإدارة الجديدة عالياً يفوق كثيراً نسبتهم السكانية. أثار هذا الأمر أحاسيس غيرة وحنق عند عراقيين آخرين، وساهم بصناعة تفسيرات مؤامراتية، لا يزال بعضها حاضراً اليوم بعد أكثر من قرن على انقضاء هذه التجربة، بخصوص تواطؤ يهودي – بريطاني ضد العراق العربي والمسلم! لحسن الحظ، لم تكن تلك الأحاسيس مهيمنة بين النخب المؤثرة.
لعل الإنجاز الأهم المتشكل في سياق هذا التحديث العام والجوهري في معنى الهوية، كناظم للعلاقة بين العراقيين، هو بداية بروز فكرة الشعب الواحد والمتساوي، واعتبار الاختلافات بين أفراده وجماعاته، أحد مظاهر التنوع الذي لا يقوّض المساواة، وليس علامة امتياز طبيعي لمجموعة على أخرى، كما في السابق. كانت الفكرة جديدة، غربية المنشأ، وفريدة تماماً. فهمتها قلة صغيرة ومتفرقة من المسلمين العراقيين من ذوي التعليم العالي، وكثير من اليهود العراقيين، بسبب تعليمهم المتميز واتصالهم بالثقافة الأوروبية.
لكن الأهم هنا هو أن فيصل، الأمير الذي لم يُتوّج بعد ملكاً على العراق، فهم الفكرة وتبناها وروّج لها بقوة، فضلاً عن سعيه المتواصل الى تطبيقها. كان هذا واضحاً منذ أيامه الأولى في البلد. وصل الى بغداد، في قطار قادم من الحلة في ظهيرة يوم الأربعاء، في نهاية شهر حزيران (يونيو) 1921، قبل تتويجه ملكاً بأقل من شهرين. كان الاستقبال الذي لقيه في بغداد حافلاً وكبيراً. في يومه الثاني في بغداد، يوم الخميس، زار مرقد الإمام الكاظم في شمال المدينة وصلى فيه، ثم زار في اليوم نفسه شخصيتين شيعيتين ستلعبان دورين مختلفين، سياسياً واقتصادياً، في قصة الملكية العراقية: رجل الدين محمد الصدر والتاجر عبد الحسين الجلبي. في اليوم التالي، الأول من تموز (يوليو)، زار مرقد الإمام أبي حنيفة في الأعظمية وصلى الجمعة هناك، قبل أن يتوجه الى زيارة ضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني. في كلتا الزيارتين، الكاظمية والأعظمية، تجمهر الناس واحتفوا بالأمير ذي الثمانية والثلاثين عاماً، الذي سيصبح ملكهم عن قريب.
كانت هاتان الزيارتان ضروريتين لاعتبارات سياسية وشعبية ودينية. لكن الزيارة الأهم، معنوياً وفكرياً، جاءت بعد نحو أسبوعين، لبيت الحاخام اليهودي الأكبر. تجمع هناك في صبيحة ذلك اليوم، أعيان اليهود العراقيين وبعض وزراء الحكومة ومعممون سنّة وشيعة وشخصيات عامة أخرى. كان الاحتفال اليهودي بفيصل لافتاً، خطب وهدايا. إحداها كانت نسخة فاخرة للتلمود اليهودي. تأثر فيصل بكل الاحتفال، وبدفع من المس بيل الحاضرة هناك وهي تحثه على أن يرتجل كلمة أمام الحضور، قال فيصل جمله الأهم وطنياً في كل سنوات حكمه، الكلمات التي اختصرت سعيه النبيل الى صناعة شعب: “لا شيء في عرف الوطنية اسمه مسلم ومسيحي وإسرائيلي، بل هناك شيء يقال له العراق، وإني أطلب من أبناء وطني العراقيين ألا يكونوا إلا عراقيين، لأننا نرجع إلى أرومة واحدة، ودوحة واحدة، وليس لنا اليوم إلا واسطة القومية القوية التأثير”.
كان اليهود من أكثر المجاميع العراقية فهماً لكلمات فيصل، ورغبةً في جعلها حقيقة، رغم تحفظ بعض المسلمين، خصوصاً من رجال الدين وطبقة الأشراف والأعيان على هذه الفكرة الغريبة التي تفقدهم امتيازاتهم المعنوية. لم يكن دور اليهود العراقيين تأسيسياً وهاماً في تشكيل الإدارة الحديثة للبلد فحسب، بل أيضاً في تأسيس العراق كدولة حديثة. عراقيان اثنان فقط حضرا المؤتمر الذي تقرر فيه تأسيس العراق كدولة حديثة بملك حجازي وجيش مهني وحدود واضحة تحميها القوة العسكرية البريطانية: جعفر العسكري، الذي كان حينها وزير الدفاع الوطني في أول حكومة عراقية تشكلت في نهاية عام 1920، وزميله في الحكومة نفسها، ساسون حسقيل، اليهودي العراقي، وزير المالية. كان ذلك مؤتمر القاهرة في آذار (مارس) 1921 الذي أداره وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل وحضره ساسة وعسكريون بريطانيون لتقرير وجهة السياسات البريطانية في المنطقة. عُقد هذا المؤتمر قبل ثلاثة أشهر من مجيء فيصل الى العراق، وفيه اتُّخذ قرار جلبه الى العراق وتتويجه ملكاً عليه.
بعد ذلك بسنوات قليلة، في 1925، سيحاجج حسقيل بذكاء وعناد وطنيين ضد الرغبة البريطانية بتعويض العراق بدفع حصته من النفط الذي سيبدأ البريطانيون باستخراجه في 1927 بالجنيه الإسترليني. أصر الرجل على أن يكون الدفع بالذهب تحاشياً لاحتمالات انخفاض قيمة الجنيه مستقبلاً، بالرغم من اصطفاف المفاوضين العراقيين الآخرين مع الرغبة البريطانية. بعد سنوات قليلة، في بداية الثلاثينات، تتضح للساسة العراقيين حكمة موقف حسقيل عندما انخفض سعر الجنيه الإسترليني وبقي سعر الذهب ثابتاً، ليزيد هذا من موارد الخزينة العراقية، الشحيحة أصلاً. لعب الرجل دوراً معروفاً في وضع القواعد الأساسية لتنظيم المال وصرفه في الدولة العراقية الوليدة. بعد مغادرته المنصب في 1925، منحه الملك فيصل وسام الرافدين من النوع المدني تقديراً لخدماته.
قد تكون المساهمة الأهم، والمجهولة عموماً، لساسون حسقيل قبل أن يغادر الوزارة هي جلبه يهودياً عراقياً آخر، قديراً ومخلصاً، تولي إدارة الحسابات العامة في الوزارة هو إبراهيم الكبير. لهذا الرجل مساهمة لافتة في قصة الدولة العراقية لا تقل أهمية عن مساهمة راعيه الوظيفي، حسقيل، إن لم تكن تتفوق عليها. على مدى عشرين عاماً من عمله في وزارة المالية، ساهم الكبير في صناعة الأفكار والمؤسسات والوقائع الأكثر تأثيراً في قصة الدولة والبلد، بينها تأسيس ديوان الرقابة المالية في 1927 تحت اسم “دائرة تدقيق الحسابات العامة” وتأسيس البنك المركزي العراقي الذي ظهرت فكرته في العشرينات، وتبناها الكبير، لكن مصاعب كثيرة حالت دون ذلك حتى عام 1947. قد تكون بصمة إبراهيم الكبير الأهم، الحاضرة حتى اليوم في حياة العراقيين، هي دوره في تبني العراق عملته الوطنية الحالية، الدينار العراقي، في 1932 ومغادرة الروبية الهندية. (يقال إنه هو وراء استيحاء تسمية العملة الجديدة من التراث العربي الإسلامي، “الدينار” وأجزائها الأصغر: نصف دينار، وربع دينار وصولاً الى مئة فلس وقرش وعانة).
لكن غير ساسون حسقيل وإبراهيم الكبير، هناك الكثير من اليهود العراقيين الذين ساهموا في صناعة العراق الحديث من داخل مؤسسات الدولة ومن خارجها، كداود سمرا، القاضي والقانوني الذي شغل في عام 1923، منصب نائب رئيس محكمة الاستئناف، المنصب القضائي الأعلى الذي يمنح لعراقي في حينها (كان رئيس المحكمة قاضياً إنكليزياً). على مدى أكثر من 25 عاماً من عمله قاضياً في مناصب مختلفة رفيعة المستوى، كان للرجل دور أساسي في تشكيل المنظومة القضائية العراقية وصناعة قوانينها وتفسيرها.
لليهود العراقيين أدوار أخرى لافتة، وبعضها تأسيسي، في مجالات الاقتصاد والفن، خصوصاً الموسيقى، والصحافة والسياسة والثقافة. لكن بدأ كل هذا الحضور في الحياة العامة بالانحسار التدريجي منذ منتصف الثلاثينات، مع صعود الفاشية والنازية في أوروبا، وبروز القومية العربية بنسختها المتطرفة في العراق، المتعاطفة مع هذا الصعود، فضلاً عن فشل مؤسسات الدولة التي استثمر فيها اليهود كثيراً في توفير الحماية لهم والدفاع عن فكرة الشعب الواحد والمتساوي التي بَشَّر بها فيصل في أيامه الأولى في العراق.