هذه الحملة ضد “الصرخيين” في العراق
آراءعبد اللطيف السعدون 20 ابريل 2022
لم تكن حملة أجهزة الأمن العراقية ضد جماعة المرجع الشيعي، محمود الحسني الصرخي، مفاجأة لأحد، كما لم تكن الواقعة التي استندت إليها الحملة خارج المألوف، لكنّ المعروف أنّ حالة الانسداد الصعب التي تعيشها “العملية السياسية” التي هندسها الأميركيون بعد الاحتلال تفرض عند مريديها البحث عن مخارج تعينهم على تصريف ما يحيق بها، وأيضاً لإشغال الناس في ما ينسيهم همومهم الكبرى. وقد وجد هؤلاء في واقعة دعوة أحد أتباع الصرخي إلى ترك “بناء القبور وتشييد المراقد وتخصيص طقوس ومراسم خاصة بها” باعتبارها تخالف تعاليم الإسلام ضالّتهم في تحقيق ما يبتغونه من أهداف، وفي التدليل للآخرين على أنّ هناك تيارات جانحة تُضمر الإضرار بالمذهب الشيعي والإساءة إلى أتباعه، ما يفرض ضرورة قيام توافق سياسي لحماية المذهب والدفاع عنه. وإذا ما تذكّرنا أنّ قادة المليشيات وزعماء “الإطار التنسيقي” هم أول من زعم أنّ هناك محاولات تجرى لإضعاف المكون الشيعي، وسلب حقه في السلطة والقرار، وأول من اخترع حكاية “الإضرار بالمذهب” التي ألقوها في وجوه الصدريين الذين يدعون إلى حكومة “أغلبية وطنية” ندرك أنّ ما يحدُث قد لا يخرج عن كونه “مناكفة سياسية”، القصد منها دفع الصدريين إلى التوافق مع زعماء “الإطار التنسيقي”، وتشكيل حكومة تضم الجميع تحت شعار “وحدة المكوّن الشيعي في مواجهة أعدائه”. لكن، يبدو أن زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، اكتشف اللعبة قبل اكتمال وقائعها، فبادر إلى الإعلان عن شجبه واقعة الدعوة إلى هدم القبور، ومطالبته الصرخي بالتبرؤ من بطل الواقعة، وإلّا سيكون مضطرّاً لفرض العقاب المناسب عليه وعلى أتباعه، كما قال. وبهذا قطع حبل الوصل بين “الواقعة” المذكورة وما يجري في الميدان السياسي من مفارقات ومناكفات، مصرّاً على تمسّكه بحكومة “الأغلبية الوطنية” وتاركاً لخصومه الصيد في المياه العكرة!
هل يعني ذلك أنّ هناك من صنع واقعة الدعوة إلى هدم المراقد على نحو أو آخر، ثم رفع صوته بالصراخ؟ هنا يمكن أن يكون الجواب نعم، خصوصاً أنّ الموضوع الذي أثارته الواقعة يعكس خلافاً فقهياً عمره أكثر من ألف عام، إذ هناك بين الفقهاء من يرى رأي بطل الواقعة المحسوب على “الصرخيين” ويرى آخرون خلاف ذلك. وكان من الممكن أن تمرّ الواقعة بهدوء، ومن دون أن تنتج هذا الضجيج العالي الذي وصل إلى مديات حادّة، باعتقال عشرات من أتباع الصرخي وحرق مساجد يصلي فيها أتباعه وتدميرها. ومثل كرة الثلج، تدحرجت الواقعة لتلد سؤالاً آخر: هل يجوز شرعاً حرق مساجد ودور عبادة يذكر فيها اسم الله وتدميرها؟
يتنقل الساسة العراقيون بين سيناريو وآخر بغرض شراء الوقت، من أجل إعادة إنتاج “العملية السياسية” الطائفية على نحوٍ يكفل لهم مواجهة المد الشعبي المتصاعد
أشار عارفون بأسرار ما وراء الأكمة إلى أصابع إيرانية في هذه القضية، وقرنوا ذلك بالتهديد المبطّن الذي أبلغ عبر قنوات متعدّدة، آخرها ما قاله الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لوزير الخارجية العراقي فؤاد حسين في زيارة الوزير أخيراً إلى طهران من أنّ بلاده لن تسمح بنشاطات معادية لها في العراق، وإنّ واجب العراق أن يقمعها. ويضيف هؤلاء العارفون أنّ طهران أرادت الثأر من الصرخيين، على خلفية اقتحامهم القنصلية الإيرانية في كربلاء وحرق العلم الإيراني في أثناء موجة الاحتجاجات التي عمّت العراق قبل عامين، وتنديدهم بالتدخلات الإيرانية. وللصرخي مواقفه المعروفة ضد إيران، ونظرته إلى “الحشد الشعبي” وكذلك المليشيات على أنّها امتداد لنظام طهران، وانتقاداته مرجعية علي السيستاني التي يتهمها بالتبعية، وهو معروفٌ كذلك بتأكيده عروبة العراق ومناهضته الغزو الأميركي للبلاد.
وعلى ذمة المثل الإنكليزي أنّ السياسة يمكنها أكل كلّ شيء، فإنّ السياسة في العراق أكلت من كلّ هذه التداعيات، إذ تصاعدت أصوات مطالبة باجتثاث التيار الصرخي وتجريم أتباعه، فيما ندّد آخرون بالحملة المناهضة له، واعتبروها حالة قمع للرأي الآخر الذي لم يخرُج عن حدود القانون. وقد فضلت “الرئاسات الثلاث” النأي بالنفس عن هذه السجالات، وصمتت صمت القبور، ولم تتحرّك باتجاه وأد الفتنة التي كادت تشكل فصلاً جديداً في الخلافات الطائفية التي أنهكت البلاد طوال الأعوام العشرين السالفة، على أنّ بعض عقلاء القوم اختاروا الموقف الحسن، إذ دعوا إلى وقف الضجيج المتعلق بالواقعة التي أثارته، وطي صفحتها، والاحتكام إلى القضاء إذا كان هناك ما يتطلب ذلك، وإطلاق سراح الأبرياء، والكفّ عن كلّ ما يثير الفتنة ويؤجّج الخلاف.
وهكذا يتنقل الساسة العراقيون بين سيناريو وآخر بغرض شراء الوقت، من أجل إعادة إنتاج “العملية السياسية” الطائفية على نحوٍ يكفل لهم مواجهة المد الشعبي المتصاعد الذي يرفض تدخلات طهران وهيمنتها على القرار العراقي.