ماذا يقول العراق للبنان عن تجربة انتخاب قوى التغيير والمستقلين؟
تابعمحمد السلطان ينشر في: 10 مايو ,2022: 02:42 ص GSTآخر تحديث: 10 مايو ,2022: 02:43 ص GST
بين بغداد وبيروت، من الثقافة والتاريخ والعائلات المشتركة والموسيقى، أكثرُ مما في كتب الراحل أنطون سعادة، أو حكايا القوميين والبعثيين عن “الوطن العربي”، لكن العاصمتين تحولتا خلال العقد الماضي على الأقل، إلى حجري “دومينو” يصفّهُما المسؤولون الإيرانيون مثل علي يونسي وحيدر مصلحي، حين يستعرضون سيطرة فصائل “الولي الفقيه” على العواصم الأربع.
ما لا يسمعه خامنئي
قبل أيام، حاولت الفنانة إليسا بطريقتها البسيطة المعروفة، إفهام الولائيين المتشددين، أن “لبنان ليس إيران”، وربما فاتها أن مدن إيران نفسها لم تكن أقل سحراً وانفتاحاً من بيروت ودمشق وبغداد، حتى هبط “الإمام” مع الملالي الأربعين في مطار مهرآباد، قادماً من “نوفل لو شاتو”.
لكن عبثاً، فما تفهمه إليسا بخلفيتها المتواضعة في السياسة والاجتماع، لا يفهمه خامنئي، حتى حين يرى أتباعه يتساقطون انتخابياً وشعبياً في العراق المجاور.
آذانُ المرشد لا تسمع هتاف شعوب الهلال الخصيب، بل تطربُ لما تقوله الخلايا الإعلامية الفصائلية، وهي تؤكد أن “شعوباً تعيش في بعض مدن محورٍ مُتخيّل يمتد من طنجة إلى جاكرتا كما يسميه يحيى أبو زكريا، سعداء للغاية بالهيمنة الإيرانية، وممتنون لأنهم يحظون بفرصة العيش بلا كهرباء ولا مال ولا أمل، وسط عشرات الجماعات المسلحة بالكواتم والمُسيّرات وفتاوى القتل الفوري”.
خلال العقد الماضي، جمّدت شعوب المدن العريقة في الهلال الخصيب معظم تطلعاتها المشتركة، وبات الهمّ المشترك الأول، هو البحث عن سبيل الانعتاق من قبضة مسلّحي يونسي ومصلحي وقاآني ودانائي فر، وأضرابهم.
وتشكّل مواعيد الانتخابات في الدول الرازحة تحت السلاح، مناسبة للنقاش حول مدى جدوى هذا الخيار في تخفيف الهيمنة الإيرانية التي تخنق راهنَ ومستقبل شعوب عديدة في المنطقة.
الانتخابات… بغداد – بيروت
يمكن تحديد 3 مواقف رئيسة من الانتخابات، فثمّة من يرى وجوب مقاطعتها نهائياً، سواءً على مستوى الناخبين، كحراك مقاطعة واسع قبل انتخابات العراق خريف 2021، أو على مستوى المرشحين، كما في قرار انسحاب قوى لبنانية رئيسية من انتخابات 15 أيار (مايو) الحالي.
يذهب اتجاه آخر، إلى رهن قرار المشاركة بشرط توفير بيئة عادلة للتنافس مع حيتان المال والسياسة، فيما يتحمّس اتجاه ثالث للمشاركة الفاعلة وفق شعار “التغيير والمواجهة من داخل النظام”.
ثمّة خطوط عريضة مشتركة بين تجربتي البلدين، لكن قائمة طويلة من أوجه الاختلاف، لابد من مراعاتها في محاولة المقاربة بين الحالتين.
وعلى مدى عقدين، مثّلت التجربة اللبنانية مرآة مستقبلية لمسار الأحداث في العراق، إذ سلك العراقيون كثيراً من الدروب التي سبق أن سلكتها العملية السياسية في لبنان، كالاقتتال الأهلي والتسويات الهشة والمحاصصة ثم تقاسم المناصب والفساد، إلا أن نتائج ثم تداعيات انتخابات تشرين الأول (أكتوبر) 2021 في العراق، قد ترفد المشهد اللبناني بقراءات مبكرة عن ما قد تؤول إليه الأحداث بعد انتخابات 15 أيار.
من أبرز أوجه التباين بين البلدين هو اختلاف المعادلة الأمنية، فرغم تسجيل حالات بلطجة وقمع وتهديد وصولاً إلى الاستهداف، كما في اغتيال الكاتب لقمان سليم، لكن عوامل عديدة أدت مجتمعة إلى أن مناهضي النفوذ الإيراني في لبنان سلِموا نسبياً قبل هذه الانتخابات من موجة اغتيالات وتهجير بالمستوى الذي تعرض له أقرانهم في العراق، حين حصدت آلة القتل أكثر من 30 شخصية بارزة خلال أقل من عامين سبقت الانتخابات، كان قاسمهم المشترك هو رفض هيمنة إيران.
هذا يعني أنه مازال هناك في لبنان عدد لابأس به من الشخصيات الجديدة والنشطاء من مناهضي الهيمنة الإيرانية “الأحياء”، خاصةً أولئك الذين كانوا جزءاً من حراك 17 تشرين، والذين قد يشكلون رغم اختلافاتهم، مجموعة جديدة تضع لبِنَة بسيطة في محاولة اختراق النظام القديم.
لكن من بين أهم أوجه الخلاف بين التجربتين، هو قانون الانتخابات اللبناني، وطريقة توزيع الدوائر، فتجربة لبنان مع الانتخابات أكثر عراقةً، وبالتالي، فإن القوى التقليدية اكتسبت خبرة أكبر في إحكام الدوائر الانتخابية وتوزيعها بالشكل الذي يضمن سيطرتها، أما في العراق، فقد ساهم قانون الانتخابات الجديد الذي أُقرّ بعد تظاهرات تشرين الأول 2019، بفوضى في حسابات الفصائل الموالية لإيران، والتي كانت عاجزة – بسبب تعدد رؤوسها – عن التنازل لبعضها وتنسيق الترشيح في الدوائر بشكل غير متضارب، ودفع أتباع إيران ضريبة كبيرة، بينما استفادت قوى تقليدية أخرى على رأسها أحزاب مقتدى الصدر، ومسعود بارزاني، ومحمد الحلبوسي من القانون.
ويتشابه البلدان، في أنهما يخوضان انتخابات بعد ثورتين متزامنتين، وتشهد انتخابات لبنان، كما العراق، ترشّح قوى وشخصيات باسم الثورة والتغيير والمعارضة، كما تتطابق التجربتان أيضاً في التعتيم شبه الكامل على العمليات المالية للقوى التقليدية، التي تسهل شراء الأصوات والترغيب.
الأرقام
تشير توقعات غير متفائلة في بيروت، إلى حسم نحو 100 مقعد مسبقاً بين القوى التقليدية، في حين تمثل الانتخابات تنافساً على مصير نحو 25 مقعداً، من أصل 128.
في انتخابات العراق الماضية، لم يكن ممكناً الحديث عن تنبؤات بهذه القطعية، نظراً لعدة عوامل، على رأسها قانون الانتخابات الجديد لسنة 2020، وطريقة توزيع الدوائر.
تشكل القوى والشخصيات الجديدة في البرلمان العراقي الحالي، أقل من 10 بالمائة، لكنه قضمٌ غير مسبوق من حصة الأحزاب التقليدية.
وقد حصل هؤلاء الـ 10 بالمائة، خلال الأسبوع الماضي، على فرصة للتحول إلى رقم صعب، فالتنافس بين طرفي الأحزاب التقليدية، التحالف الثلاثي والإطار الشيعي، قاد إلى انسداد دفع الطرفين إلى محاولة استمالة المستقلين الأربعين لترجيح كفة أحدهما.
وتجاوزت عروض الإطار والثلاثي للمستقلين، سقف بعض المناصب أو الوزارات، ووصلت إلى عرض منصب رئاسة الوزراء على المستقلين، وهو المنصب التنفيذي الأول في البلاد، كما في مبادرة مقتدى الصدر، التي شكلت مفاجأة أخرى بعد عرض مماثل من الإطار.
يمكن الإشارة هنا إلى جانبين أيضاً من التباين بين التجربتين، حيث تنقسم القوى الشيعية في العراق إلى تحالفين متنافسين، أحدهما يمثل الاتجاه الإيراني، بينما يحاول الآخر الابتعاد نسبياً، وهو ما لا يبدو مشابهاً لسلوك القوى الشيعية في لبنان، كما أن العراق ليس محكوماً بعد باتفاقات المناصفة، رغم محاولات موالي إيران استجلاب كل ما يمكن جلبه من التجربة اللبنانية، كما في بُدعة الثلث المعطل التي تم استيرادها من لبنان للمرة الأولى هذا العام.
بالعودة إلى الأرقام، فإذا ما صدقت التوقعات التي نشرتها مراكز لبنانية مختصة بالمعلومات، فإن الفرصة الضئيلة في فوز وجوه من خارج المنظومة التقليدية تصل في الحقيقة إلى 20 بالمئة من عدد النواب، وهي ضعف النسبة التي تمكن مستقلو العراق من إيصالها إلى برلمانهم الأول بعد الثورة.
ماذا تعلّمنا بعد 6 أشهر
تجاوز عدد المرشحين في انتخابات العراق 3000، وهو ما جعل مهمّة التنقيب في سجلات المرشحين وتوجهاتهم صعباً، ولم يكن مفاجئاً أن عدداً من المستقلين والمعارضين كشفوا وجوههم بعد الفوز، وانحازوا إلى الفصائل أو غيرها من القوى التقليدية، وتعلّم الناخبون العراقيون درساً، في أن عليهم التحقق ليس من تاريخ مواقف مرشحهم المستقل فحسب، بل أيضاً في مدى صموده أمام المغريات بعد الفوز.
في لبنان، ربما يكون أمر التحقق المُسبق من مسار المرشح أكثر يسراً نظراً لمساحات الدوائر الصغيرة نسبياً.
قد تمثّل الانتخابات اللبنانية الحالية مرحلة أولى في مسار تغيير المعادلة نسبياً، وذلك عبر الضغط من أجل إقرار قانون انتخابات جديد يقلص امتيازات القوى التقليدية واستفادتها من القانون الحالي، ولذا فإن مستوى قدرة مجموعة المستقلين المرشحين للفوز، على الانسجام والعمل المشترك، سيكون أمراً حاسماً في تقديم نموذج نجاح، تستند له كتلة المستقلين المفترضة تلك، في مشروع أكبر قبل انتخابات 2026.
في العراق، يخفق المستقلون حتى الآن بخلق كتلة واحدة، ويتنازعون أمرهم بينهم، حتى وهم يتلقون عروض تولي رئاسة الوزراء. والخلاف بين مجموعة نشطاء ومعارضين وإعلاميين وجدوا أنفسهم نواباً فجأة، ليس أمراً غريباً، على أن لا يقود الخلاف إلى منع العمل المشترك، فالأحزاب التقليدية تعمل سويةً رغم خلافها.
على مستوى التكتيكات السياسية، مثل التحالفات والمناورات، مازالت القوى الجديدة تواجه حرجاً في ملفّين، الأول هو إبرام الاتفاقات النديّة مع القوى التقليدية، والثاني هو تسويق تلك الحركات لناخبيها.
لم يحظَ مستقلو العراق بفرصة لتنسيق مواقفهم قبل الانتخابات، وانعكس ذلك على نوع من التخبط والذهول أمام التحديات والاستحقاقات التي واجهتهم لاحقاً، ولذا فإن مناقشة مجموعة أسئلة بشكل مبكر، ستكون كفيلة بتجاوز سيناريو المستقلين العراقي، من بينها.. “مَن نحن؟ ما الذي يجمعنا؟ ماذا نريد في الدورة البرلمانية المقبلة؟ وكيف سنطبق خطتنا؟ مَن هم حلفاؤنا المُحتملون؟ وماهي خطوطنا الحُمر؟”.
نقلا عن “النهار“