عُذْراً باني بغداد أبو جعفر المنصور

1

عدنان شاكر 

بعد الاحتلال مباشرة ، تعرض العراق إلى أبشع تحطيم لذاكرته التاريخية ولأكبر جريمة مسح منظمة لشخصيته التراثية التي قاربت بشاعتها الإجتياح الوحشي الظالم . هذا الإعتداء اللا أخلاقي يشبه ما كانت قد تعرضت إليه بغداد منذ ألف عام عندما دخلها المغول واستباحوا دمها وذاكرتها ، وألقوا بما تحويه خزائنها ومكتباتها من كتب نفيسة ومخطوطات نادرة في مياه نهر دجلة الذي اصطبغت ألوانه بألوان الحبر . والفارق بين إجتياح العصر المُعَولَمْ وذاك الإجتياح الذي تعرضت له بغداد عندما كانت حاضرة العلم والثقافة على يد هولاكو ، هو إن الإجتياح المغولي لها لم يكن يرفع شعار نشر الديمقراطية وكان منسجما مع طموحاته الهمجية في تحطيم وتدمير الحضارات . أما الاجتياح الأخير الذي سُوِق له ، بأنه قادم لرفع الظلم ونشر العدالة وترسيخ المعرفة ، لم يكن يحمل معه غير الجهلة واللصوص والقتلة الذين استباحوا ذاكرة العراق العملاقة ليتفرغوا بعدها إلى استباحة دماء العراقيين . إذ بعد نكبة المتحف الوطني وسرقة الأرشيف العراقي ( مكية – الجلبي ) وتهريبه إلى نيويورك ، توجه الضالعون بتدمير الذاكرة العراقية إلى التماثيل والمعالم والنصب التي تزين شوارع وساحات بغداد في محاولة حقودة لمحو صورة العراق التاريخي ، فهذه التماثيل والنصب تعتبر جزءاً من ذاكرة الشعب العراقي إذا ما أدركنا بأن الفن هو ذاكرة الشعوب .
لقد كنا نفاجأ كل يوم بإزاحة تمثال بأنه يمثل مرحلة سابقة من مراحل العراق ، إلى أن وصل الدور تماثيل الخلفاء والعلماء والشعراء العباسيين التي تزين بغداد منذ عشرات السنين . ومن تلك التماثيل ، تمثال نصفي للخليفة أبو جعفر المنصور باني بغداد ، تم تفجيره وإزالته من الساحة الرئيسية الواقعة بحي المنصور الراقي ، حيث لم يصمد في حينه إلا الرأس النحاسي من التخريب ، بعد أن ظل من معالم المدينة طوال خمسة عقود ، وكذلك تدمير تمثال الواثق بالله ثالث خلفاء العباسيين المنتصب في ساحة الواثق بحي العلوية ، وكثير غيرهما في مدن ومحافظات العراق .
بعد ثلاثة أعوام و بهجاء ثقافي واسع ، وبغضب شعبي عارم ، جرى ترميم وإعادة نصب تمثال أبو جعفر في مكانه الأول ، ولكن قبل أيام أخذت جهات معروفة بخيارها الشعوبي تطالب ثانيةً بتدمير التمثال . إنه سلوك ماضوي وحشي يختزن الحقد الدفين على كل ما هو عراقي أصيل ، فالمتاحف والنصب التذكارية هي ذاكرة الشعوب ، وهي مراكز ومعالم تجمع الإنجازات الحضارية ، كما إنها ليست وسيلة إتصال بين البشرية فقط ، بل هي أهم وسيلة إتصال بين الماضي والحاضر ، حيث تحتفظ المتاحف والشواخص في كل مكان بأرقى ما توصل إليه شعب ما ، وأعظم ما ابتدعه خلال عصور مختلفة من حياته وتطوره ، فالوطن هو ذاكرة الناس الطيبين ، ولا يحق لأي كان العبث بهذه الذاكرة وتشويه إرثها وملامحها ومخزونها . 
قد يحدث هذا الذي حدث في فترة معطوبة من الزمن ، وقد يظن البعض إن الأمور إنتهت إلى حيث وصلنا ، لكن منطق الأيام المرتبط بالذاكرة الشعبية للعراقيين سيغير كل شيء ، وسيعيد الأمور إلى نصابها ، ومثل هذه المعادلة لا تحتاج إلى براهين وأدلة ، لأنها معادلة الحق والحقيقة . 
إن ذاكرة الشعوب لاتموت وهي قادرة لاستعادة وعيها ، وسوف تقطع كل الأيادي الآثمة التي سرقت وعبثت ومازالت تعبث بتراثنا ومتاحفنا وتاريخنا وحضارتنا ، وسيظل للعراق مكانه ” العربي الكوفي ” اللائق تحت الشمس ، طالما ظل هناك حائط عراقي يحفر العراقيون  على جدرانه سطور الذاكرة البغدادية المتوهجة بحروف من نار ونور .

التعليقات معطلة.