هل يساهم الكرد في تحريك الركود السياسي العراقي؟
آراءعبد الباسط سيدا31 مايو 2022
عراقية كردية في أثناء مشاركتها في بطولة عربية في أربيل لرفع الأثقال (28/12/2021/فرانس برس)+الخط–
توافق العراقيون، بمختلف مكوناتهم وتوجهاتهم، على مشروع وطني، يضمن حقوق الجميع لا يمثل ترفاً كمالياً، أو شعاراً مرتكزاته العواطف، وإنما هو حاجةٌ واقعيةٌ ملحّة؛ هذا إذا كانت هناك رغبة حقيقية في حل مشكلات العراقيين، لا سيما المعيشية الحيوية منها، وإذا ما توفرت الإرادة الصادقة الصلبة لإنجاز ذلك.
واستقرار دولة العراق الوطنية ذات السيادة لن يكون لصالح العراق والعراقيين فحسب، بل سيكون لصالح المنطقة بصورة عامة، فهناك فرق كبير بين أن يكون العراق ساحة تصفية الحسابات، وتمرير مشاريع التوسع، وأن يكون وطناً لكل مواطنيه، ومجلساً للحوار والتفاهم من أجل التعاون بين دول المنطقة وشعوبها، وذلك بهدف النهوض، بعد القطع مع النزعات والمخططات التدميرية وجرائم الفساد التي استهلكت، وتستهلك الموارد، وتفرض مناخاً طارداً على أصحاب الكفاءات، ولا تساهم أبداً في تهيئة المقومات المطلوبة لضمان مستقبلٍ كريمٍ للأجيال المقبلة.
ومن الواضح أن توجّه العراقيين من أصحاب الأولويات العراقية هو، بصورة عامة، في هذا المنحى، وهو التوجّه الذي تبلور وتعزّز بعد تجربة نحو عقدين من التيه منذ سقوط نظام صدّام حسين عام 2003، وتمظهر ذلك في نتائج انتخابات البرلمان العراقي التي أجريت في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2021. وقد بات العراق، منذ نحو عشرين عاماً، وما زال، ساحة مفتوحة أمام التدخّلات الخارجية، الدولية منها والإقليمية، خصوصا من جهة إيران التي تمكّنت من التغلغل في مؤسسات الدولة، واستطاعت تشكيل شبكة من المليشيات المحلية بموارد بشرية ومالية عراقية، وبقيادة إيرانية، مليشيات كُلفت بأداء المهام المطلوبة إيرانياً في الداخل العراقي وخارجه، خصوصا في سورية.
ومع ارتفاع حدّة التبرّم العراقي الشعبي من النفوذ الإيراني في الداخل العراقي، وهو الأمر الذي ترجمته نتائج الانتخابات المشار إليها؛ وتبلور معالم تحالف ثلاثي وازن بين الصدريين والسنة والحزب الديمقراطي الكردستاني، كان متوقعا أن تستعين إيران بكل ما كانت قد راكمته من نفوذ عبر الأحزاب المرتبطة بها مباشرة ومليشياتها؛ ومن خلال تلك التي نسقت، وتنسق معها، ضمن الساحة العراقية، وتمكّنت نتيجة ذلك من التأثير في مؤسسات الدولة والمجتمع العراقيين، والتمدّد، بل والتحكّم فيهما.
إذا استعاد العراق سيادته بالكامل، وتمكّن من وضع حدٍّ لحالات النهب والفساد، يمتلك كل الإمكانات على صعيد الخبرات والموارد التي تؤهله لأداء دور فاعل في المنطقة
وهذا ما جرى بالفعل على أرض الواقع، وتجسّد في سلسلة الهجمات الصاروخية على أربيل، وفي سلسلة سريعة من قرارات المحكمة الاتحادية الخاصة بالعملية السياسية، وموضوع قانون النفط والغاز في إقليم كردستان العراق، وهو موضوع قديم – جديد له علاقة بجملة من المواضيع الأخرى الواردة في الدستور، ولم تلتزم بها الحكومات العراقية السابقة، خصوصا موضوع المادة 140، وهي المادّة الخاصة بتحديد الهوية الإدارية للمناطق المتنازع عليها، وقضية تعويض أسر ضحايا الحكم البعثي. وفي هذا السياق، كان من اللافت عدم تناول قرارات المحكمة المعنية عمليات الفساد الكبرى في البلاد، وهي العمليات التي تسبّبت في حرمان الشعب العراقي، خصوصا في الجنوب، من الكهرباء والماء والرعاية الصحية والخدمات الأساسية.
ولعلنا لا نذيع سراً هنا إذا ما ذكرنا أن الشرخ الذي حصل في الموقف الكردي، لأسباب عدّة، من بينها الخلاف بشأن موضوع رئاسة الجمهورية، قد أدّى إلى عدم تمكّن التحالف الثلاثي بين الكتل البرلمانية المشار إليها من تأمين العدد الكافي المطلوب لعقد الجلسة البرلمانية الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية، الذي من المفروض أن يعلن مرشّحاً من الكتلة البرلمانية الأكبر لتشكيل الحكومة، وذلك بموجب الدستور العراقي.وقد بذلت جهود حثيثة للتقريب بين وجهات النظر، ولكن يبدو أن الجهود النقيضة المقابلة لها كانت، هي الأخرى، قوية، وحالت، وتحول، دون الوصول إلى التفاهمات المطلوبة. ويؤثر هذا الخلاف على الحالة العراقية العامة، ويؤدّي، في الوقت ذاته، إلى فرض مزيد من الضغوط على الائتلاف الصدري، سواء من أطراف “الإطار التنسيقي” أم من إيران نفسها، ويدفع الناشطين العراقيين الذين كانوا فاعلين في حراك أكتوبر/ تشرين الأول 2019 الشبابي نحو الإحباط؛ وهو الحراك الذي طالب بأمور عدّة، جسّدت توجهات غالبية العراقيين، خصوصا على صعيد المطالبة بالسيادة العراقية، والدعوة إلى محاسبة الفاسدين. فالعراق إذا استعاد سيادته بالكامل، وتمكّن من وضع حدٍّ لحالات النهب والفساد، يمتلك كل الإمكانات على صعيد الخبرات والموارد التي تؤهله لأداء دور فاعل في المنطقة، والمساهمة في رأب الصدوع بين مختلف الأطراف، وتدوير الزوايا بينها، فهو يمتلك ثروة نفطية هائلة وإمكانات واعدة في مجال الغاز؛ كما يمتلك الأراضي الزراعية والموارد المائية التي تمكّنه، إذا ما وجدت الإدارة الوطنية الحريصة على شعبها ووطنها، ليصبح في مقدمة الدول المصدّرة للمنتوجات الزراعية، بدلاً عن استيرادها كما يفعل اليوم. كما أن في استطاعة العراق تأمين الخبرات الفنية المحلية التي تؤهله لنهضةٍ صناعيةٍ تقنيةٍ على مختلف المستويات، وذلك إذا ما توفّر لها المناخ الملائم الجاذب المشجع.
يستطيع العراق أن يكون من مصادر الطاقة البديلة، كما يمكنه أن يكون معبراً للنفط الخليجي وغيره، عبر تركيا وصولاً إلى أوروبا
وما يُستشفّ من تطورات الأوضاع الإقليمية والدولية وتفاعلاتها، لا سيما في أجواء الحرب الروسية على أوكرانيا؛ والتجاذبات الأميركية الصينية، والتكتلات التي تتشكل أو تفعّل هنا وهناك؛ ما يُستشف من ذلك كله أن أهمية العراق على المستويين، الإقليمي والدولي، ستزداد، وذلك نتيجة التوجّه الأوروبي الصريح نحو إيجاد مصادر بديلة للطاقة تعوّضها عن النفط والغاز الروسيين، فالعراق يستطيع أن يكون من مصادر هذه الطاقة البديلة، كما يمكنه أن يكون معبراً للنفط الخليجي وغيره، عبر تركيا وصولاً إلى أوروبا، ضمن إطار تفاهمات إقليمية ودولية تكون في مصلحة الجميع.
وفي محاولةٍ لتجسير الخلافات، وتجاوز حالة الجمود التي تهيمن على الوضعية السياسية العراقية الراهنة بصورة عامة، والوضع السياسي في إقليم كردستان العراق، جاءت زيارة رئيس الإقليم، نيجيرفان بارزاني، إلى السليمانية، حيث اجتمع مع رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني، ورؤساء الأحزاب السياسية الأخرى الفاعلة في الإقليم. وكان لافتا في الكلمة التي ألقاها ن. بارزاني، بمناسبة تخريج دورة ضباط البيشمركة في الكلية العسكرية الثالثة بقلاجولان، تأكيده أهمية الأمن العراقي المشترك، ودعوته إلى توحيد قوات البيشمركه لتكون في منأى عن الخلافات الحزبية، وتصبح قواتٍ تابعةً لحكومة الإقليم التي تستمد شرعيتها من البرلمان المنتخب. كما أكد، في الوقت نفسه، ضرورة تفاهم القوى العراقية من أجل مصلحة العراقيين وبلدهم.
وبعد هذه الزيارة المعبّرة، كان اللقاء بين وفدي المكتب السياسي لكل من الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني، وبحضور رئيس الإقليم ورئيس الاتحاد الوطني، الأمر الذي عزّز الآمال بإمكانية الوصول إلى حل مقبول، يكون في صالح الإقليم ولصالح العراق عموماً. ومن شأن هذا الحل المنتظر، إذا ما جرى الوصول إليه، أن يمكّن مجلس النواب العراقي من المضي في عملية انتخاب الرئاسات، وتفعيل مؤسّسات الدولة العراقية، الأمر الذي من شأنه الحدّ من التدخلات الخارجية التي تكون، من دون أي جدال، على حساب سيادة الدولة العراقية، ومنافية لمصلحة العراقيين بصورة عامة. وهذا ما بيّنه رئيس وزراء الإقليم، مسرور بارزاني، في حديثه ضمن فعاليات منتدى دافوس الاقتصادي 2022.
سياسة التلويح بـ “الفتوحات” الخارجية، لتعزيز السلطة الداخلية التي اتبعتها مجموعة من دول المنطقة أدّت إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي
يستطيع العراق، إذا استعاد عافيته وسيادته أن يؤدّي دوراً فاعلاً، بحكم موقعه وموارده وتركيبته السكانية، تنظيم الحوارات بين دول المنطقة وتفعيلها، بهدف تجاوز الخلافات، وهذا ما سيساهم في الجهود الرامية إلى الحدّ من النزاعات والحروب، وتعزيز الأمن والاستقرار، وفتح الآفاق أمام مشاريع تنموية ضخمة، تكون في صالح شعوب المنطقة التي عانت الكثير، وما زالت تعاني، من الحروب والتهجير والفقر، كما تعاني من هشاشة المؤسّسات الصحية والتعليمية والخدمية بصورة عامة.
سياسة التلويح بـ “الفتوحات” الخارجية، لتعزيز السلطة الداخلية التي اتبعتها مجموعة من دول المنطقة أكثر من نصف قرن أثبتت فشلها الذريع في الداخل والخارج، فهي أدّت إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي، ولم تؤدّ، على الصعيد الداخلي، إلى تعزيز الثقة بين الشعوب والحكومات؛ وإنما، على النقيض من ذلك، أدّت إلى تراكم الاحتقانات، وزيادة درجة قابليتها للانفجار في أي لحظة.
ما تحتاجه منطقتنا قبل كل شيء أن تركز دولها على ضرورة تحسين ظروف مواطنيها من جميع النواحي، فهذه الدول مطالبة بالتركيز على التعليم والبحث العلمي، وعلى الخدمات الصحية، ورعاية المسنين ورياض الأطفال، وتشجّع الأنشطة الاقتصادية التي توفر مزيدا من فرص العمل للطاقات الشابّة التي تتميز بها مجتمعاتنا، عوضا عن أن تكون هذه الطاقات مجرّد سلعة بشرية، تُستخدم في العمليات القتالية ضمن إطار المشاريع الإقليمية، وحتى الدولية، سواء داخل الحدود الوطنية أم خارجها، كما هو حاصل اليوم.