مقالات

عندما يكون التاريخ عدوّاً للحاضر (2 من 2)

21-06-2022 | 05:50 المصدر: النهار العربي

عقيل عباس

عقيل عباس

تمثال أبي جعفر المنصور في بغداد.

تمثال أبي جعفر المنصور في بغداد.

يخجل ساسة الإسلام السياسي الشيعي العراقي عموماً من الفن، ويحتاجون تبريراً لأي صلة محتملة لهم به! في أحد اللقاءات التلفزيونية لإعلاميين وفنانين مع رئيس وزراء العراق الأسبق، السيد نوري المالكي في 2013، دافع، في اطار رده على سؤال بخصوص إهمال حكومته للفن، عن الشرعية المشروطة للفن باستدعاء السيد علي الخامنئي عبر إشارته أن الأخير، عندما كان رئيساً للجمهورية الإيرانية، اشترى اسطوانات موسيقى بيتهوفن! كان غريباً أن يستشهد رئيس وزراء البلاد بسلوك زعيم دولة أجنبية كي يثبت أنه ليس ضد الفن، ويهمل الحضور القوي للموسيقى والفن في تاريخ وحاضر البلاد التي يحكمها ويكرر ادعاءه انه يعمل من أجلها! بعدها بسنوات قليلة، في 2018، سأل صحافي خليجي رئيس الوزراء العراقي التالي، حيدر العبادي، في لقاء تلفزيوني إذا كان يستمع للغناء، فرد عليه بالقول “لا أتعاطى مع الأغاني” باستثناء أغنية دينية لأم كلثوم، موضوعها الحج إلى مكة المكرمة.

طبعاً الاستماع للغناء من عدمه خيار شخصي للمرء يقع في نطاق الحرية الفردية، لكن يصبح مثل هذا الخيار مقلقاً وذا قيمة عامة عندما يظهر بانتظام كمؤشر واحد، بين مؤشرات كثيرة، كاشفاً عن ثقافة واسعة وراسخة تستهدي بها حركات الإسلام السياسي الشيعي في إدارة البلد والشأن العام، وعبرها يُصار إلى صناعة وطنية عراقية على المقاس الأيديولوجي لهذه الحركات بعيدة عن تجربة المجتمع للواقع. تستلهم هذه الوطنية التي يمكن تسميتها بالوطنية المذهبية فقط القيم الدينية والمذهبية التي رشحت من جزء صغير من تاريخ البلاد، مرتبط حصراً بالتاريخ الإسلامي الشيعي الممتد لنحو 300 عام من كامل تاريخ البلد على مدى نحو 7 آلاف عام.

من خلال هذا الاستلهام المذهبي مثلاً، يضيع تاريخ العراق الحديث منذ تأسيس الدولة العراقية في العقد الثاني من القرن العشرين. فعلى سبيل المثال، يغيب في خطاب حركات الإسلام السياسي الشيعي العهد الملكي والعهد الجمهوري السابق لحكم حزب البعث، لكن في هذا الخطاب نفسه وفي النصوص التأسيسية التي قام عليها هناك مواقف واضحة ومعلنة من الخلافتين الأموية والعباسية قبل ألف عام! الأمر ذاته ينطبق على تاريخ البلاد الطويل والمهم قبل الإسلام، وهو التاريخ الذي أصبح تأسيسياً في فهم العالم لنفسه، لكنه يغيب في خطاب الإسلام السياسي الشيعي باستثناء عبارات سريعة وعابرة، ومقطوعة من سياقها التاريخي، طابعها احتفائي ومجامل بخصوص اكتشاف الكتابة وتشريع القوانين وسواها من إنجازات السومريين والبابليين والآشوريين وسواهم من سكان البلاد القدماء.

تختلف حركات الإسلام السياسي الشيعي حول أمور كثيرة: بخصوص المناصب والنفوذ والثروة والمواقف السياسية من القضايا المختلفة، وتتصارع بينها بضراوة شديدة ومقلقة أحياناً، لكنها تتفق في خطابها الساعي الى مذهبة الوطنية العراقية وأسلَمَتها شيعياً باسم تمثيل الأغلبية وإبراز قيمها وتمثلها. يظهر هذا من السعي الى اعادة تشكيل فهم العراقيين حتى لتاريخ مدنهم ومعانيها. بغداد مثلاً مدينة عباسية، أسسها العباسيون وازدهرت في عصر خلافتهم وأصبحت العاصمة الأولى في العالم، كحاضرة عالمية تنتج المعرفة والقيم والرخاء في أثناء قرون حكمهم. هذه حقيقة تاريخية لا يختلف عليها حتى المبتدئون في قراءة التاريخ. لكن يصعب على بغداد اليوم أن تتذكر بُناتها والذين ساهموا في ازدهارها، في ما يبدو انكاراً قسرياً مفروضاً بقوة المذهبة الطائفية لمعنى البلاد وتجاربها التاريخية المختلفة. عبر هذا الإنكار القسري، يصبح مثلاً وجود تمثال رأس مؤسسها، الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، مشكلة بحاجة الى حل تفادياً لإهانة مشاعر أغلبية سكان البلاد، كما يتحول وجود شارع مهم فيها، لا يزال مهملاً بدوافع مذهبية كما يحاجج البعض، يحمل اسم خليفة عباسي آخر، هارون الرشيد، إلى مشكلة أخرى!

تقوم الحجج المذهبية المستندة على خطاب الإسلام السياسي الشيعي على افتراض واضح وإشكالي على نحو عميق وهو أن على البغداديين، ومعهم بقية العراقيين، ان يفهموا هذين الخليفتين فقط عبر خصومتهما المفترضة مع إمامين شيعيين معاصرين، جعفر الصادق وموسى الكاظم، وليس عبر أي شيء آخر قاما به، أي إلغاء كامل تاريخهما واختزاله بهاتين الخصومتين. ينتصر هذا الفهم الأيديولوجي للعقيدة على التاريخ والحقيقة. وجود تمثال لأبي جعفر المنصور في بغداد لا يعني تبنياً قيمياً او سياسياً للرجل وإنما احتفاء مشروع بحقيقة تشييده لبغداد. في آخر المطاف، بغداد لم تنزل من السماء وإنما بناها بشر في ظروف بشرية معينة، تستحق تسجيلها والتذكير بها ومن حق المدن تذكر تواريخها، لا أن تنكرها وتُزيّفها لأسباب ايديولوجية.

يظهر ترسيخ الفهم المذهبي لمعنى الوطنية العراقية بوصفها نتاجاً لتجربة الإسلام السياسي الشيعي على الأخص في معنى الدفاع عن البلد، إذ يُضخم على نحو مبالغ فيه كثيراً وعلى حساب الحقيقة التاريخية التي لا يزال معظمنا شهوداً عليها، دورُ البعد الديني المذهبي في هذا الدفاع مقابل تهميش الأبعاد الأخرى: المؤسساتية، المرتبطة بالدولة العراقية، والشعبية والدولية. فمثلاً لا تزال هزيمة تنظيم “داعش” وتحرير البلاد منه عبر تجربة قاسية وصعبة خاضها العراقيون على مدى ثلاثة أعوام ونصف تُنسب بشكل كامل تقريباً الى فتوى السيد علي السيستاني و”الحشد الشعبي” الذي تشكل سابقاً للفتوى لكنه اتسع كثيراً بالاستفادة منها، وينسب نفسه الآن اليها. في إطار استرجاع تاريخ هذه السنوات الشاقة والمُكلفة، التي تسبب بها في المقام الأول سوء ادارة الائتلاف الشيعي الحاكم حينها لملفات الأمن ومكافحة الإرهاب والقوات المسلحة بحيث انهارت معظم هذه القوات بعد سقوط الموصل بيد “داعش” في 2014، يتضاءل كثيراً الدور المهم للمؤسسات العسكرية للدولة في هزيمة “داعش”، كقوات مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية وقطعات الجيش الأخرى. كما تختفي تقريباً المساهمة الدولية، الأساسية والمهمة، التي كان تعبيرَها الاوضح تحالفٌ دولي واسع قادته الولايات المتحدة، تولى تأهيل القوات المسلحة العراقية ووفر لها غطاءً جوياً لعب دوراً حاسماً في هزيمة التنظيم الإرهابي.

في سياق هذا الاسترجاع المذهبي الطابع لمعنى الدفاع عن الوطن، كثيراً ما يبرز حس التفضل على العراقيين من جانب قوى وشخصيات كثيرة مندرجة في “الحشد الشعبي” والفصائل المسلحة التي غالباً ما تضيع الحدود الفاصلة بينها وبين الحشد. يقف هذا الخطاب المذهبي بالضد من سلوك القوات المسلحة العراقية، وعلى رأسها قوات مكافحة الإرهاب، التي قاتلت وأعطت ضحايا كثيرين، وحررت المدن، لكن، ما إن انتهت الحرب، عادت الى ثكناتها بصمت بعد ادائها واجبها ولم تسع لصياغة هذا الواجب على أنه فضل أدته نحو العراقيين أو لتحويل النصر الذي حققته إلى اعتياش سياسي دائم.

تكمن الإشكالية الأساسية التي ترفض حركات الإسلام السياسي الشيعي أن تواجهها في تمسكها باعتبار الدين على النحو المذهبي الذي تفهمه، حاكماً على الحياة العامة، وليس جزءاً من هذه الحياة، يتفاعل معها ويتطور عبرها ومعها. من دون تفكيك هذه الواحدية الثقافية للإسلام السياسي الشيعي، بما تنطوي عليه من احتكار للحقيقة وتعال على التاريخ ومحاولة ترويضه لكي يناسب العقيدة، فإنها ستبقى غريبة عن ثقافة العراقيين كمجتمع متنوع، وتظل رهينةً لفهم مذهبي – طائفي للبلد، لا تشاركها فيه اليوم حتى أغلبية الجمهور الشيعي الذي تدعي هذه الحركات تمثيله.