عبدالمنعم ابراهيم
«قمة السبع» تريد جر العالم إلى مواجهة ضد الصين!
«الاقتصاد» هو السلاح الناعم الذي تستخدمه الدول الكبرى لترويض (السياسة) في الدول الأخرى، وجعلها تسير في نهجها كيفما تشاء.. هذه الحقيقة تعمل بها كل الدول الكبرى منذ سنوات، بل عقود طويلة، لكن بعد (حرب أوكرانيا) أصبح الاقتصاد أكثر أهمية للدول الغربية، بدليل أنها اختارت مواجهة روسيا بعقوبات (اقتصادية) ومالية وتجارية عوضا عن الدخول مع (موسكو) في حرب عسكرية مباشرة في أوكرانيا.
ويمكن القول بأن جزءا من رغبة أمريكا وبريطانيا في إطالة أمد الحرب في أوكرانيا هو جعل روسيا تنشغل عسكريا واقتصاديا سنوات طويلة في (حرب أوكرانيا) لكي تصرفها عن التنسيق الاقتصادي والتجاري والمالي مع (الصين)، وهذا يعطي الغرب، وتحديدا أمريكا وبريطانيا، فرصة التفرغ الكامل لمواجهة النفوذ الاقتصادي الصيني على مستوى العالم.
وقد تجلى ذلك واضحا جدا في قمة دول السبع التي عقدت مؤخرا في ألمانيا، حيث أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن أن (مجموعة السبع) أطلقت برنامجا هائلا للاستثمارات في الدول النامية قيمتها 600 مليار دولار، وتهدف إلى الرد على المشاريع الواسعة النطاق التي تمولها الصين في العالم.. وقال (البيت الأبيض) في واشنطن قبيل خطاب (بايدن): «إنه مع الشركاء في مجموعة السبع، نسعى إلى جمع 600 مليار دولار بحلول عام 2027 من أجل استثمارات عالمية في البنى التحتية». ومن جانبه أكد المستشار الألماني (أولاف شولتس) أن مجموعة السبع وضعت لنفسها هدفا طموحا يتمثل في تقديم عرض أفضل للعالم من حيث الاستثمار في البنية التحتية. وتعهدت (واشنطن) جمع حوالي 200 مليار دولار وحدها خلال 5 سنوات لهذا البرنامج!! وبحسب وكالات الأنباء، فإن مصطلح «جمع» لا يعني أن البلدان السبعة هي التي ستقدم هذه المبالغ الهائلة، وبالتالي ستجمع «واشنطن» 200 مليار دولار من خلال القروض والتمويلين العام والخاص.
ويريد الغرب أن يتميز عن (الصين) التي استثمرت بكثافة في العديد من البلدان النامية، لتشييد بنى تحتية عبر ما يسمى برنامج «طرق الحرير الجديدة» أو لضمان الوصول إلى بعض المواد الخام.. وقال مسؤول كبير في البيت الأبيض: «إن الهجوم الصيني موجود منذ سنوات، وقد ترجم بكثير من المدفوعات النقدية والاستثمارات، لكن الوقت لم يفت بعد» في إشارة إلى مبادرة مجموعة السبع، وأضاف المصدر نفسه: «من الواضح أن إفريقيا وجنوب الصحراء ستكون أولوية رئيسية للشراكة التي أطلقتها المجموعة، مؤكدا أن أمريكا الوسطى وجنوب شرق آسيا وآسيا الوسطى هي أيضا مناطق مهمة جدا»!
ويتضح من هذه التوجهات لمجموعة السبع أن أمريكا ومعها بريطانيا ترغبان في دفع بقية الدول الغربية إلى التحرك بحماس أكثر لمواجهة النفوذ الاقتصادي الصيني الذي حظي في السنوات الأخيرة بنجاحات كبيرة في عقد صفقات كبيرة تجارية واقتصادية واستثمارية في مشاريع البنى التحتية لدول كثيرة في آسيا وآسيا الوسطى وشرق آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط ضمن برنامج (طرق الحرير الجديدة)، بل وصلت بعض هذه الصفقات إلى دول أوروبية أيضا.
هناك نهج اتخذته أمريكا منذ هزيمتها في حرب فيتنام عام 1975، وهو عدم دخولها حروبا خارجية وحدها، وإنما مع شركاء غربيين آخرين، وتستخدم (حلف الناتو) كأداة أمريكية في شن هذه الحروب الخارجية، فعلت ذلك في أفغانستان ويوغسلافيا والعراق وسوريا، وتفعله حاليا في (حرب أوكرانيا).. وهذا ينطبق على نهجها (الاقتصادي) أيضا، فهي لا تريد مواجهة النفوذ الاقتصادي الصيني العالمي وحدها، بل تريد من (الدول السبع) المشاركة بكرم وسخاء مالي مواجهة مشروع (طرق الحرير الجديدة) الصيني على مستوى العالم! تماما مثلما تفعل شركات الإنتاج في السينما الهوليوودية، حين تتشارك معا في إنتاج فيلم سينمائي ضخم يحتاج إلى ميزانية كبيرة، فتكون حسابات الخسارة أو الربح في إنتاج الفيلم مشتركة وتتوزع المخاطر بين الشركات معا!
الرئيس (جو بايدن) في إطلاقه مبادرة الـ600 مليار دولار في قمة (مجموعة السبع) الأخيرة في ألمانيا يريد توزيع المخاطر الاقتصادية في مواجهة النفوذ الاقتصادي الصيني بين بقية الدول الغربية، وليس حتى بين مجموعة السبع وحدها! لأن (بايدن) يدرك أن قوة التنين الصيني أكبر بكثير من مواجهته منفردا.
هذه الحقيقة صار يدركها الكثير من دول العالم.. بل إنها صارت تتردد في أمريكا نفسها، فهناك قناعة في الإعلام الأمريكي بأن أمريكا فقدت ريادتها في قيادة العالم بمفردها.. ومنذ يومين فقط، قال مقدم برنامج على قناة (فوكس نيوز) الأمريكية: «إن العالم الحديث سينهار لأسباب اقتصادية، منوها إلى أن الولايات المتحدة فقدت قدرتها على حماية النظام العالمي»، وأضاف مقدم البرنامج (جيسي واترز): «نحن نتحدث عن نقص في موارد الغذاء والطاقة»، محذرا من أن هذه العملية بدأت بالفعل، واستشهد بأزمة الغذاء التي اندلعت في بيرو وسريلانكا، وأن أي دولة يمكن أن تكون التالية، وأن الولايات المتحدة مسؤولة عن عمل النظام العالمي وشحنها البحري المحمي.. فقد فقدنا هذه القدرة الآن.
ومن جهته أشار (بيتر زيهان) مؤلف كتاب (نهاية العالم هي البداية فقط) إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية فقدت الرغبة في مواصلة مسارها السابق: «لقد انفقنا كل قوتنا السابقة.. لدينا 14 حاملة طائرات في الخدمة، والعديد منها في الطريق، وهذا يكفي لتدمير بلد ما، ولكن هناك حاجة إلى حوالي 800 مدمرة للقيام بدوريات في محيطات العالم.. من أجل حماية التجارة البحرية.. لدينا 70 منها فقط».
وبالإضافة إلى هذه الصورة المعتمة اقتصاديا قامت أمريكا والدول الغربية بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا! وتسببت في خلل في سلاسل التوريد للحبوب والأغذية والزيوت على مستوى العالم، كما تسببت في سيكولوجية التضخم المفرطة في أمريكا وأوروبا والدول الفقيرة وزيادة الأسعار في الطاقة والبنزين أيضا!
وإذا كانت أمريكا ومعها بقية الدول الغربية قد تسببت بهذا الدمار الاقتصادي للعالم من وراء عقوباتها الاقتصادية والتجارية والمالية ضد (روسيا) على خلفية الحرب في أوكرانيا، لكم أن تتخيلوا حجم الدمار الاقتصادي والمعيشي الذي ستخلقه أمريكا ومعها (الغرب) إذا دخلت في مواجهة وعقوبات اقتصادية ضد (الصين) مستقبلا.. بكين ذات النفوذ الاقتصادي الهائل على مستوى العالم.. وإذا دخل الغرب في مواجهة اقتصادية ضد الصين، فإن العالم كله سيدفع الثمن وليس أمريكا والغرب وحدهم.