العراق .. خيال التاريخ واختناق الجغرافيا
آراءعمار السواد03 يوليو 2022
بدأت، في يونيو/ حزيران 2004، وبعد ضغوط لإجراء انتخابات ونقلِ السيادة تحت لافتة إعادة تشكيل “الدولة العراقية المستقلة” أولى الخطوات مع حكومة إياد علاوي المؤقتة، وثم المجلس الوطني، تمهيداً للاقتراع المُنتظَر. أجريت انتخاباتٌ تتلوها أخريات… ولا دولةَ تأسست. كيانُ الحكم كان تابعاً لهوامشه… منذئذ، ظنّ كثيرون أنها تُبنى فقط بحكم فردٍ يعلو الجميع، فطالبوا بنظام رئاسي، متناسين دور تجربة القائد الوحيد في عرقلة مسار تطوير الدولة عند أكثر من محطّة عراقية.
قد يَستفزُّ أيَّ عراقي قولُ إنّ بلادَه ليست دولةً بتقاليد متجذّرة، بعكس حال جواريه التركي والإيراني، ونظيريه باللغة العربية؛ المغربِ ومصر. الاستفزاز، سببُه الخلطُ بين الدولة كياناً ذا تقاليد متواصلة من جهة والحضارةِ جهة أخرى. العراق بلد كان وطناً لخمس حضارات مهمة قبل الميلاد. وبعدئذ، حاضنةً لحضارات أخرى. لكنّه دولةٌ وليدةُ القرن العشرين. هذا ليس عيباً، فجديد الدول كثير وبعضها عظمى. العيبُ هو محاولة القفز على الواقع.
الخلط بين الدولة والتاريخ الحضاري يتبعه سوءُ فهم. وبالتالي، يأخذُه نحو اتجاهاتٍ مغلقةٍ، سار العراقيون إليها على مدى تأسيس دولتهم، البالغةِ الآن مائة عام، فاصطدموا بخيباتٍ عدة. وحين حاولوا تغييرَ المسارِ، ذهبت الأمور في اتجاهاتٍ مثَبِّطة. إنه فقر على المراجعات. ذلك متوقعٌ في بلد لا يمتلكُ حركةَ تدوين لحاضره وتاريخه القريب.
لم يؤرِّخ أبناءُ البلد جلَّ أحداثه، بما في ذلك الحربُ العراقية الإيرانية أطولُ حروب الشرق الأوسط
وفرة التاريخ لم تصبح تأريخاً. المدوّنةُ الأمّ ظلتْ كتابَ “العراق” لحنا بطّاطو. بمعنى أنّ كتابة التاريخ ومحاولةَ فهمه وقراءةِ خلفياته برز فيها كاتب غير عراقي. لم يؤرِّخ أبناءُ البلد جلَّ أحداثه، بما في ذلك الحربُ العراقية الإيرانية أطولُ حروب الشرق الأوسط. وحتى فيما يتعلق بالقرون العثمانية الأربعة، التي شكلت جانباً مهماً من الذاكرة والهوية العراقيتين، لم يدوِّن وقائعَها وآثارها إلّا علي الوردي في “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق” الذي لم يُعنَ بكلّ الأسئلة، بل ركّز بثراء على نزاعات الجماعات المحلية وتناقضاتها وتعقيداتها خلال تلك الحقبة.
تركيزُ الوردي على الفترة العثمانية كان إقراراً بأنّ العراق الراهن ليس عبّاسياً، فضلاً عن أنّه لم يكن سومرياً أو أكادياً أو بابليا أو كلدانياً أو آشورياً. هو في بدايات نشوء دولته عثمانيٌ. حتى على مستوى التعقيدات المذهبية، تماهى مع الصراع بين إسطنبول وأصفهان خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. وليس من باب المصادفة أنّ منحَ الجنسية حتى وقت غير بعيد بُنيَ على أساس مَن يمتلك شهادةَ الميلاد العثمانية حصرياً. حتى ملامحُ العاصمةِ بغداد، ليس فيها ما يُذكر من العمرانِ العباسي المؤسّسِ لها. يشملُ هذا المدرسة المستنصرية، آخرَ معالم ذلك العهد. المدينة أعيد تشكيلُها وبناؤها عثمانياً. وعت المملكةُ العراقية ذلك في بواكيرها. غيّرت اسمَ أهم شوارعِ الرصافة الموازي لنهر دجلة، من شارع خليل باشا إلى شارع الرشيد. إنّها رغبةُ العثور على الذات في التاريخ الأقدم حيث الكثيرُ.
محاولةُ الرجوع إلى خيال التاريخ لم تغادر ذهنَ العراقيين رغبةً بإعادة الأمجاد العتيدة، من حمورابي إلى هارون الرشيد والمأمون. لهذا لا ينفكّون من الإشارة إلى الكتابة الأولى والقانون الأول والملحمة الأولى وعشتار وبابل وبغداد وأور والبصرة والكوفة.. على هذا الإيقاع، بعد 2003 وربما في تسعينيات القرن الماضي، ظهر جدلٌ بشأن فكرة الأمة العراقية بديلاً عن الأمة العربية.
البلاد التي تعاني من أزمةٍ جغرافية وقطائع تاريخية لا يمكن لأي حاكم في الدنيا أن يجعلَ منها أكبرَ من حجمها، مهما بدا ناجحاً
هو خيالٌ مَزَجَ التاريخ الأبعد بالحاضر الديموغرافي، ونجح في إشاعة شعور عام، لكنه، من جانب آخر، اصطدم بعقباتٍ عديدة. يمكن اختصارها بثلاث عبارات: قُرئ الماضي وما يزال باعتباره بطولةَ حربٍ وفاتحين. كانت قراءةً انتقائية جداً. كما أنّ تطورات البلاد طالما شهدت قطيعة مع الماضي وبداية من الصفر. فضلاً عن هذا وذاك، محنةُ الجغرافية وسجنها.
وبتفصيل أكثر، عادةً ما غابتْ التقاليدُ المستدامة في بلاد ما بين النهرين. هناك قطيعة متعمّدة في أي حاضر مع الماضي الملاصق له. ليس الأمر محاولةَ صناعة مستقبل بقدر كونه محاولةَ بداية من لا شيء، وافتراض أنّه كلّ شيء، أو قفزاً على الماضي الملاصق. هكذا كثُرت البدايات، كأنّ العراقَ طفلٌ رضيع يولد عجوزاً في كل مرّة. وهنا مثالان معبران؛ لا صحيفةَ واحدةً استمرّت مع تغيير الأنظمة، بينما كانت “الأهرام” المصرية رفيقةَ كلّ العهود رغم المتغيرات الحادة. وليس بين المدن العراقية الواقعة جنوب تكريت مدينة مأهولة واحدة يعود تاريخها إلى ما قبل الإسلام.
أيضاً أزمة جغرافية حادةٌ تخنق البلاد. منفذُها البحري لا يُذكر. وعلى حدوده تتوثب ثلاثُ قوى كبيرة إقليمياً، تركيا وإيران والسعودية، وتبتعد عنه بقليل قوةٌ رابعة، مصر، وخامسةٌ محصّنة بتوازنات عالمية هي إسرائيل. وحتى على مستوى أنهاره، وهو ذو النهرين، ظل يعاني مما تريدُه بلدان المنابع، منابعِ نَهريْه وروافدِهما، إلى حد أنه تصحّر.
العقبةُ الثالثة جوهريةٌ في نمط التفكير السائد. إذ الفرق كبيرٌ بين مسعى الاستقلال عن مطامح التوسّعين الإقليميين، ومحاولةِ استعادة التاريخ باعتباره عظمةَ القادة وهيلمان الملوك. هذه المحاولة هي مركزُ التصوّرات غير الحكيمة، فالبلاد التي تعاني من أزمةٍ جغرافية وقطائع تاريخية لا يمكن لأي حاكم في الدنيا أن يجعلَ منها أكبرَ من حجمها، مهما بدا ناجحاً، لأنّه سيصطدم بأزمة ثم يبحث عن الخلاص عبر طرق خاطئة جرّب العراق كثيراً منها.
جرّب العراق أن تنشئ سلطتهُ السياسيةُ الدولةَ ومجتمعَها، أو بناءَ كيان نظامه من الخارج
في أغلب أوروبا دولٌ ماضيها توسعيٌّ أو استعماري، مثل بلجيكا وهولندا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا… بعد قرون أو عقود من الخسائر، أدركت حجمها الطبيعي، وبدأت تبحث في خياراتها البديلة لتستمر، ولتصبح مؤثرةً بطريقة أخرى. فحين يصبح الدوري الإسباني لكرة القدم رمزاً وطنياً مُربِحاً هو خيارُ أفضل مما سعى إليه الجنرال فرانكو. وتنقلت إيطاليا بين أوهام موسوليني وانتشار المافيا عقوداً، ثم وجدت خياراتها في أمور أسهل كالسياحة. حتى في بلدانٍ ذات نفوذ سياسي عالٍ، مثل بريطانيا وألمانيا، لم تعد المنطلقات القديمة نفسُها سائدةً منطقهما، فألمانيا أعطت لاقتصادها أولويةً جعل منها أهمَّ بلد أوروبي يقود القارة من دون حاجة للتوسع. وعندما أدركت بريطانيا، تقريباً، أنّ تشرشل كان تاريخاً، وأنّها في حاجةٍ إلى البحث في خياراتها الأخرى، رضيتْ بأن يكون رؤساءُ وزرائها مجرّدَ موظفين.
ليس هذا عيباً أو ضعفاً أو تراجعاً، بل هو قدرةٌ على التعامل مع العيوب والتراجعِ والضعف، لا تأتي بالمكابرة السياسية وتكرار الأوهام. وفي العراق، يوجدُ أكثرُ من جانبٍ يمكن العملُ عليه، بعيداً من فقاعات استعادة أشباح التاريخ. إضافة إلى هذا، استحضارُ الأرواح الميّتة كان انتقائياً أيضاً، مرّة يخضع لجدلٍ ديني مذهبي، فيتّجه هذا الطرف إلى التاريخ باعتباره شيعياً أو باعتباره سنّياً، وأخرى ينسى سلسلة من الانهيارات مرّت بها الأرض العراقية على مدى قرون، سواء القريبة من هذا العصر أو التي تخللت فترات الازدهار.
ولو افترضنا أن الوقوف على أطلال الماضي يمكن أن يشكّل هوية أمة راهنة، سنكتشف ما يضيف إلى التعقيد تعقيداً. الانقسام على هذه الأرض قديم، الجدل مستمر منذ زمن حضارة “الدولة المدينة” السومرية. وفي ما بعد، ليس أكثرَ دلالة في الوصف من كلام طه حسين في محاضرة ألقاها في تونس عام 1957 قارن فيها بين العراق والحجاز بالقول: “لم يعرف العالمُ الإسلامي القديم إقليماً اشتد فيه الخلافُ بين الأحزاب السياسية كالإقليم العراقي… وإذا هدأت الأمور واستقرّ السلم، فعلماءُ أولئك وهؤلاءِ يلتقون في مساجد الكوفة والبصرة ليختصموا بألسنتهم، وليجادلَ بعضُهم بعضاً بالخطب الرائعة في المشكلات السياسية والدينية المختلفة”. ففي الوقت الذي نتج عن الصراع ثراءٌ فكري، نجم عنه ضعفٌ وانهيارٌ سياسي، كونه لم يُنتج استقراراً سياسياً وكياناً متواصلاً. أو كما ختم علي الوردي كتابه عن طبيعة المجتمع العراقي، مقارناً مع مجتمعات أخرى “أما أهل العراق فكانوا على النقيض، يجادلون في كلّ قضيةٍ ويتنازعون، وهم بذلك يُضعفون أنفسَهم من الناحية السياسية، إنما هم من الناحية الفكرية أقوياء لا يشقّ لهم غبار”. وبمعزل عن مدى صحة المبالغة مدحاً وذمّاً، فإنّ خيارات الجماعات البشرية العراقية رهنٌ بقدرتها على مراجعة ما جرى بعينٍ لا تغفل التفاصيل وبالتالي التدوينَ، ومن ثَم تنقد ذلك كلَّه باحثةً عن طرقٍ تنسجم مع إمكانياتها وليس ما يفوق قدرتها.
الخلط بين الدولة والتاريخ الحضاري يتبعه سوءُ فهم. وبالتالي، يأخذُه نحو اتجاهاتٍ مغلقةٍ، سار العراقيون إليها على مدى تأسيس دولتهم
ورغم عدم سلامة تشبيه بلدٍ مثقلٍ بضعفه بدولة عظمى، تبقى المقارناتُ مهمةً لوجود نقاط تشابهٍ بين البشر؛ بريطانيا كانت قبل القرن السابع عشر بلداً صاخباً في متغيراته، وكادت الخلافاتُ والصراعات الدينية والسياسية والقومية أن تنهيَ مستقبلَه، خصوصاً في زمن تشارلز الأول وصراعاتِه مع البرلمان وحركة الطباعةِ ومجموعة “دعاة المساواة”، وبقيةِ الكتابِ المناوئين للكاثوليكية وما تلاها من تأسيس الجمهورية واستبدادها. انحسر ذلك كله، بعد أن شرعتْ نخب المجتمع بمراجعةَ الدروس القديمة وفهمِ التاريخ في مرحلة ما بعد كرومويل وحريق لندن. وجدتْ الجزيرةُ المعزولة طريقَها. استمرّت ثورةُ المطبوعات التي كانت جزءاً من خلافاتها، وأصبحت سبباً في بناء تصور جديد عن الدولة. وولد من رحمِ ذلك مفكّرون رئيسيون في السياسة، أمثال توماس هوبز وجون لوك وجون ستيوارت مِل. وهؤلاء لم يكونوا ليظهروا لولا مراجعاتٍ للأخطاء بالتزامن مع بناء اقتصاد مبهر ومجتمع صناعي استطاع، بعد قرن من ذلك التاريخ، أن يحتل الصدارة قرنين ونصف القرن.
التاريخ هنا درس، وليس أمجادَ انتماء. أنتج أحداثَه أبناؤُه وبناته. ومنطق الأمجاد نفسُه لا يحتاج بشدّة إلى التاريخ مع وجود ثروة بشرية كبيرة، وجدلٍ فكري محتدم، وحركةٍ فنية وأدبية محلية قادرة على أن تخرج من حدودها إن طوّرت نفسَها، فضلاً عن مستوى عالٍ من إنتاج النفط.. هذه الجوانب تتحرّك الآن في غياب الدولة. قد يكون أمراً مفيداً بأن يفرض الحراكُ المحلي على أكثر من مستوى إيقاعَه على بناء الدولة، وليس العكس.
جرّب العراق أن تنشئ سلطتهُ السياسيةُ الدولةَ ومجتمعَها، أو بناءَ كيان نظامه من الخارج. وفي الحالتين، تستخدم التناقضات الداخلية والخلافات الحادّة لتكريس نفوذ وسطوة من طرفٍ على آخر. وما إن يتسلط أحدهم حتى يبدأ بقمع الجدل ويخنقه، ثم ينفجر مجدّداً لتولد مرحلة جديدة، ويستثمر شخص أو جهة أو مجموعة الصراع.
هذه الحلقة اللا متناهية من التكرار نتيجةٌ إجبار التاريخ على العودة، وليس إجباره على كشْف أسرارِه ودروسه. مسعى استعادةِ التاريخ عمليةٌ انتقائية شديدة الخطر، بينما استقراء التاريخ مراجعةٌ تضمن اجتيازه. لكن كيف يكون ذلك، والماضي لم يؤرّخ وفق ما يليق بحجمه، بل ظل مجرّد ذاكرة ينقلها من عاشه شفاهيا إلى الأجيال اللاحقة، لتضيّع الأسماعُ كثيراً وتحرّفَ الألسنةُ كثيراً وتنتقي منها البطولات والحنين.