مقالات

أمّهات معنَّفات

العنود المهيري

العنود المهيري

تعبيرية.

جرّبوا حث الأمهات من حولكم على التحدث عن تجارب ولادتهن، وأجزم بأنكم ستجدون قاسماً مشتركاً في أغلب القصص: تعرّضهن لسوء المعاملة، وإن لم يعرفن اسماً لما مررن به. إنّ لـ”عنف الولادة” أشكالاً لا حصر لها، فهناك الإهمال، مثل تجاهل إخطار الأم بما يخصّها، والاستخفاف بشعورها، ومعاملتها بجفاء. وهناك انعدام احترامها، مثل إهانتها اللفظية، ومعاكسة رغباتها وخياراتها، وفرض الإجراءات الطبية عليها. وقد يأخذ العنف شكلاً حرفياً بالاعتداء الجسدي عليها. وعنف الولادة أكثر شيوعاً وتطبيعاً مما نتخيّل في عالمنا العربي. وقد برهنت لي شخصياً على ذلك تجربة إحدى الصديقات، والتي عايشت حَمْلها في بلد عربي، وولّدت في آخر، فلم يتغيّر المشهد.  واقعياً، بدأت “الإساءات” منذ كانت تزور طبيبها لإجراء الفحوص الدورية للجنين. تسأله عن أمر، وتتحقّق من معلومة ما، فيجيبها بضجر: “لا تنشغلي بما لن يسعكِ فهمه”. الأم في عرفهم لا تمتلك أحقية الإلمام بما يحدث لجسدها. إنّها مجرد إناء يحفظ، ثم يُخرج، السلعة الثمينة في جوفه.  انتقلت صديقتي إلى بلدٍ ثانٍ، وإلى طبيبة أخرى تتقاضى مبالغ كبيرة. “إنّها شاطرة”، طمأنتها النسوة، فتنفّست صديقتي الصعداء، وقرّرت أنّها تستطيع تحديد الخطوط العريضة لما يجب أن تكون عليه عملية ولادتها. ولكن الواقع جاء صادماً، أبطاله الجلافة وانعدام التعاطف.  ضربت الطبيبة أولاً عرض الحائط بقرار الأم المسبق بإعطائها إبرة تخدير فوق الجافية. مفعول الإبرة سيستلزم 30 دقيقة، وذلك يُعتبر هدراً لوقت الطبيبة، ففرضت على الأم إكسيد النيتروز، أو “غاز الضحك”، ولم تكترث لمعاناتها من الغثيان. لكن الولادة لم تمض بالسرعة والسلاسة المأمولتين من الطبيبة، فكان أن أخلفت وعداً ثانياً للمريضة: عدم قصّ العجان من دون الضرورة المُلحّة لذلك، وهو النهج المُتبّع في دول العالم الأول عموماً. استخدمت مقصّها في لحظات من الاستعجال والنزق، من دون العودة إلى الأم، أو إعلامها بالانتهاك الصريح لجسدها. عموماً، ولّدت الأم بسلام رغم كل الفظائع، وركّزت حينها على طلبها المحدّد مسبقاً بوضع الطفل على صدرها لساعة على الأقل، وهي الممارسة التي أُثبت علمياً بأنّها ستهدئه، وستنظّم دقات قلبه وتنفّسه. ولكنها فوجئت به يُؤخذ بعيداً، وبرغبتها تُرمى في حاوية المهملات. والأعجب أنّ الإساءات بقيت “متدفقة” حتى مرحلة الرضاعة. لم تدرّ الأم الحليب من فورها، ولكن أحداً لم يكلّف نفسه عناء شرح هذه الظاهرة الطبيعية لها، وإخبارها بأنّ حليبها قد يتأخّر 5 أيام كاملة. اكتفت الممرضات بالضغط المؤلم، والمنعدم الصبر، على الحلمة والثدي، وإشعار الأم المسكينة بالإخفاق والعطب. في نهاية المطاف، غادرت صديقتي المستشفى سعيدة بوليدها، بصحة جيدة أيضاً. لم يكن ثمة ما يشي ظاهرياً بتعرّضها للعنف والأذى، ولكن ظلّ ينغص عليها إحساس عميق، إحساس تعرفه الأمهات، بالانتهاك والإذلال. لنسمع قصص النساء بإنصاف عوضاً عن تحجيمهن واتهامهن بالدراماتيكية، وسندرك جميعاً أنّ عنابر الولادة تغصّ بالضحايا.

 المصدر: النهار العربي