مقالات

البناء

 
سعود بن علي الحارثي
 
”..الفكرة المقيتة السقيمة الخاطئة التي يتبناها فرد أو بضعة أفراد قد تتسبب في هدم ما بنته أمم خلال حقب من الأزمان، ومن هنا ينبغي تفحص الأفكار والأقوال والتنبه لغاياتها والبحث في مضامينها قبل وقوع الخطر، ويقوم البناء بمختلف أنواعه ومستوياته البشري والمعرفي والعمراني على قواعد وأسس قوامها المعرفة والخبرة والتوازن والتناسق مع نوع البناء وأغراضه هدفها الحفاظ على قوته ومتانته والحرص على جودته،”
ـــــــــــــــــــ
(لا بد للنفس من الامتلاء بشيء ما،
بالحب والخير أو بالبغض والشر،
بالنوازع البناءة أو بالنوازع التدميرية
التي تتحول في النهاية وتنقلب لتدمير الذات
إذا لم تجد ما تدمره خارج الذات.) . فدوى طوقان
في اللغة (بنى الشيء – بنيا، وبناء، وبنيانا: أقام جداره ونحوه، فيقال: بنى السفينة، وبنى الخباء)، ويستخدم كمصطلح مجازي في معان كثيرة تدور حول التأسيس والتنمية والتطوير والإضافة على ما هو قائم، ويقال بنى مجده بنفسه، وبنى الرجال أي دربهم وأهلهم فأصبحوا رجالا يعتمد عليهم في مجالات كثيرة، وقال الشاعر في ذات المعنى: (يبني الرجال وغيره يبني القرى * شتان بين قرى وبين رجال)، وهو تأكيد على أن بناء الإنسان أساس كل بناء، ومقدم على بناء المدن والمنشآت. وفي اللغة كذلك (بنى الطعام جسمه، وبنى على كلامه احتذاء واعتمادا عليه، وأبنى فلانا: مكنه أن يبني داره وبزوجته: أدخله بها)، ويأتي عكس البناء الهدم أي إسقاط وهدم ما تم بناؤه بالأمس، ويعتبر فقد الشخص المهم في مجتمعه لفضله وعلمه ومكانته الاجتماعية وتخصصه النادر… بمثابة البناء الشامخ الذي انهدم، يقول الشاعر عبدة ابن الطبيب من قصيدة يرثي بها قيس بن عاصم: (وما كان قيس موته موت واحد * ولكنه بنيان قوم تهدما). ويأتي البناء مرادفا للتعمير والتشييد والإنشاء… ودائما ما يرتبط البناء بالطموح والرقي والتقدم، إذ يستحيل على الإنسان تحقيق أهدافه وطموحاته وتطلعاته بدون بناء يؤسس لمراحل التنفيذ ويستمر إلى ما شاء الله وما وجد الإنسان على وجه البسيطة يضيف الآخرون على بناء من تقدمهم، وفي القرآن (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار…) التوبة، وقالت آسيا بنت عمران (رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين…)، التحريم، فهذا بناء تقوم أساساته على الإيمان والتقوى والتضحية من أجل الحق … والإنسان يفتخر ببنائه بصفته إنجازا تحقق، يقول الشاعر : لسنا وإن أحسابنا كرمت * يوما على الأحساب نتكل * نبني كما كانت أوائلنا تبني * ونفعل مثل ما فعلوا .
والفكرة المقيتة السقيمة الخاطئة التي يتبناها فرد أو بضعة أفراد قد تتسبب في هدم ما بنته أمم خلال حقب من الأزمان، ومن هنا ينبغي تفحص الأفكار والأقوال والتنبه لغاياتها والبحث في مضامينها قبل وقوع الخطر، ويقوم البناء بمختلف أنواعه ومستوياته البشري والمعرفي والعمراني على قواعد وأسس قوامها المعرفة والخبرة والتوازن والتناسق مع نوع البناء وأغراضه هدفها الحفاظ على قوته ومتانته والحرص على جودته، وكلما كانت القواعد متمكنة وصلبة وكان مصمم أو مهندس هذا البناء على بينة بمضمون الأغراض الحقيقية لبنائه، متمكنا من عمله يمتلك الخبرات والمهارات اللازمة لإخراجه بالشكل الذي يحقق الرضا والإعجاب، ارتفعت درجة الاطمئنان في كفاءة البناء وضمان رسوخه وصموده أمام الأخطار المحدقة، وكل من يتمتع من البشر في رؤيته وسلوكه وعمله بالأمانة والإخلاص والإنصاف يحرص ويسعى دون شك لبلوغ ذلك، وتبنى الحياة بسواعد الإنسان، وتبني الرجال عقول الرجال، وبهممهم وعزائمهم يكتمل البناء وتتحقق الأهداف، وتبنى المدن وتتقدم الشعوب وتتحقق الطموحات وتقوم الحضارات بالبناء والتشييد والتعمير، وللبناء معايير واشتراطات وضوابط تبتغي سلامة البناء وتسعى إلى تلافي الفوضى والعشوائية والفشل وتتوخى الإضرار بالآخرين، فالبناء الذي يفضي إلى إلحاق الضرر ونشر المفاسد أقرب إلى الهدم منه إلى البناء، ففي البناء إصلاح وكسب وزيادة ورخاء، ولا يهدم الإنسان البناء القائم إلا لكي يؤسس عليه بناء جديدا أفضل وأعلى وأصلح وأمتن من سابقه، والعلاقة بين الإنسان والبناء وطيدة ومحورية، فالحياة برمتها تقوم على البناء، الأسرة تبني أطفالها، والفرد يبني ذاته، والحكومات تبني مجتمعاتها والمؤسسات تبني كادرها الوظيفي، والشعوب تبني بلدانها، العلم والمعارف والتنمية والتقدم والابتكار والنمو والمؤسسات … لن تتحقق وتأخذ طريقها إلا بالبناء، وقد ترك الأوائل للأواخر تراثا معرفيا وثقافيا وعمرانيا ضخما وإبداعات فنية وشوامخ لم تقهرها الكوارث والظروف والأحداث، ولم تفقد بريقها ولا أهميتها ولا مكانتها، وظلت صامدة قرونا من الزمان تؤكد على عظمة الإنسان وعلاقته بالبناء والتأسيس وارتباط البناء الأصيل بحياته، ويأتي بناء الإنسان في أعلى المراتب أهمية وصعوبة وعمقا في التخطيط وفي رسم البرامج والقواعد السليمة، حقوقه العامة والخاصة، صحته، تعليمه، تطوير مهاراته والارتقاء بفكره وثقافاته وتهيئته تهيئة شاملة لمهمة البناء المستقبلي … فالإنسان هو المكلف وهو المعني بعملية البناء، وما كان للعالم أن يشهد هذه الثورة العلمية الضخمة التي شملت جميع القطاعات والمناحي والوسائل وهذا التقدم المعرفي الكبير لو لم يسبقه أساس قوي وبناء ناجح ركز في المقام الأول على تأهيل الإنسان الذي تكفل بالبناء الشامل. فلنكن دائما في مواقع البناء الذي يضمن تحقيق التقدم والنهوض ويعزز المكتسبات القائمة ويضيف إليها بالعمل والعلم والأفكار القيمة والروح الإيجابية المتفاعلة وقوة الإرادة والتصميم على النجاح …