مقالات

الحداثة الليبيراليّة أمام مأزقها

كرم الحلو
شكّلت الحداثة التنويرية التي عرفتها أوروبا منذ القرن السابع عشر ثورة في تاريخ الإنسانيّة بما أرسته من قيم وتصوّرات ومفاهيم غير مسبوقة أصابت الإنسان وموقعه في الطبيعة والكون، والعقل الإنساني وأولويته وحريته في النقد والرفض والمساءلة، والنظام السياسي وحدوده ومصدره والسلطة وشرعيتها وعلاقتها بالمجتمع والفرد. ما أسّس لعالم جديد بكل أبعاده السياسية والاجتماعيّة والفكريّة، عالم خرج معه الإنسان من ظلاميّة القرون الوسطى إلى أنوار الحداثة حيث تشكّلت مفاهيم الفرد والعقد الاجتماعي والمجتمع المدني، المفاهيم المؤسسة للمجتمع الحديث الذي يتناقض في مفهومه وجوهره مع مجتمع ما قبل الحداثة، مجتمع الرعاية والوصاية والطاعة والانقياد إلى الغيب واللامعقول.
 
بذلك شق الإنسان طريقه باعتباره في مركزية الكون والوجود بعد أن كان على هامشه، وبوصفه محط الحق ومصدر المعرفة والمشروعيّة والقيمة العليا التي تخدمها جميع القوى الأخرى. في هذا السياق التحديثي، تمّ التشديد على قدرة العقل في توجيه الإنسان إلى الحقيقة، وإيجاد مجتمع قائم على العدالة والتسامح في الاعتقاد والمساواة الحقوقيّة، كما باتت دراسة الطبيعة دراسة علميّة وفهم قوانينها العامّة، أمراً ممكناً من دون اللجوء إلى قوة خارجها تتحكّم في مسارها وتبرّر التفاوت الطبقي والامتيازات السياسية والاجتماعيّة. وتلازمت فكرة التقدّم مع فكرة التنوير، إذ إنّ التنوير سيؤدي إلى التقدّم والتحوّل التدريجي إلى الأفضل، والتوصّل إلى حياة أرضيّة يزول فيها الفساد والشرّ ويرسّخ الخير والفضيلة.
 
لقيت هذه الأفكار بأشكال شتى أصداء واسعة في فكرنا النهضوي العربي، فقال فرنسيس المرّاش بحقوق الإنسان الطبيعيّة ولزوم الحريّة الأدبيّة وبالعقد الاجتماعي والمساواة السياسية والعدل الطبقي. كما قال فرح أنطون مطلع القرن العشرين مستبشراً بقرن جديد من السلام والوئام بين البشر: «مضى الزمان الذي كانت فيه المدن والمقاطعات تباع وتشرى وانقضى ذلك الجنون السياسي، جنون الفتوح وحب الاستيلاء… كأنّ غطاء المستقبل يكشف عن عيني وأرى الإنسانية الآتية الجديدة… أرى الشعب يرتقي باختراع الآلة، وكلّ فرد مساوياً الآخر، وكلّ أجناس البشر يمدون أيديهم بعضهم إلى بعض كأنّهم إخوة في عائلة واحدة».
 
وفي الحقبة الزمنّية ذاتها كتب أمين الريحاني: «الشعوب الصغيرة المظلومة ستتحرّر وستحيا حياة جديرة… الأمم تتمخّض بالثورات وغداً تتحقّق أجمل أحلام الإنسان». وتوقّع شبلي الشميل ثورة تنصر الشعوب فيها بعضها بعضاً والأمم بعضها بعضاً، تنصر بعضها بعضاً على حكوماتها ونظاماتها وإبدالها بما هو أوفق لروح العصر وأحفظ لمصلحة الجمهور. وعليه إنّ الاشتراكيّة نظام المستقبل، وهي ستمحو الأوطان والتعصّب لها، وستجعل الشعوب تمدّ أيديها لتتصافح على رغم الحدود والفواصل.
 
لكن على الضدّ من رؤى الحداثة التنويرية ووعودها المتفائلة، نرى أنّ العداء بين الأمم والشعوب لا يزال مستحكماً، والوحدة الأممية أو القارية وحتى الإقليمية ما زالت بعيدة المنال، بل إنّ الأوطان ذاتها مهدّدة بالعصبيّات ما قبل الوطنيّة. فيما يبقى الإنفاق العسكري واحتشاد السلاح بما فيه النووي، في مقدّمة الأخطار التي تهدّد المستقبل الإنساني. ولم يؤد تقدّم الثورة وارتفاع الدخل العالمي إلى إنهاء البؤس والمعاناة الإنسانيين حيث أشار تقرير التنمية البشرية 2016 إلى مستويات عالية من الحرمان تطاول البلدان النامية ومن بينها بلداننا العربية. ولم يعمل التقدّم الإنتاجي والتقني لمصلحة الفقراء والعدالة الطبقيّة، فالسياسات التي اتبعتها مؤسسات الدولة سواء في الولايات المتحدة أو في أوروبا وغيرها، في خلال السنوات الخمس والثلاثين الماضية، تميّزت، وفق نعوم تشومسكي في «العالم… إلى أين» (دار الساقي، 2018)، بآثار مدمرة في غالبية السكّان، وتزايد التفاوت الطبقي، كأنّما هناك نوع من الحرب الطبقيّة يشنّها الأغنياء والأقوياء ضدّ الفقراء والعمّال، وفيما كلّ شيء يعمل لمصلحة الأغنياء، فيزداد ثراؤهم بالترافق مع العاطلين من العمل، حتى في الولايات المتحدة بالذات.
 
وليس العقد الاجتماعي الحداثي هو الذي يميّز علاقات الحكّام بالمحكومين في أكثر بلدان عالمنا بل هي محكومة بعقود تسلطية على النمط الهوبزي، يحتكر فيها الحكّام السلطة مقابل الأمن، فيما ليس للمحكومين سوى الطاعة والخضوع.
 
وعلى النقيض من مبدأ حريّة الرأي والاعتقاد واحترام الآخر المختلف، ينتشر التعصّب ورفض الآخر، حتّى في الغرب مهد الحداثة الليبيراليّة. ولم تحل الحداثة مشكلة «الفرد» الذي نادت بأولويته، حيث تشير الدراسات إلى معاناة الفرد من الوحدة والقلق على المصير وارتباك العلاقة بالمجتمع.
 
في ظل هذه الوعود والرهانات الحداثية الخائبة، يزداد التوحّش تجاه الطبيعة، تلوّث شامل للبحار والأنهار والتربة، وتغير في المناخ وازدياد حرارة الأرض. فهل نحن كجنس نسير على طريق التدمير الذاتي. هل تحوّلت الحداثة التويرية إلى نقيضها؟
 
إزاء هكذا تساؤلات، يعتقد تشومسكي أنّ الوجود الإنساني مهدّد بالضياع، إلا أنّه من الضروري التمسّك بالآمال الموجودة واستخدامها بأفضل ما يمكن، فقد يكون هناك عالم أفضل.