مقالات

الرؤية … صناعة الإنسان أولاً

فهد الدغيثر

سأبدأ بهذه القصة المختصرة التي تحدث عنها أحد أساتذة جامعة أميركية، كان صديقي السعودي يحضر الدكتوراه فيها في ولاية تكساس أواخر السبعينات الماضية. استرعى انتباه الأستاذ وجود سيدة تحضر للدكتوراه وهي تستأذنه عند انتهاء المحاضرة لتسأل بفضول عن اسم الثانوية التي تخرج فيها الأستاذ. وعندما أجاب بالاسم قالت له: وأنا كذلك. ثم استطردت تسأله عن أخيه مايك. فضحك الأستاذ وقال: إذاً تعرفين مايك، هو بخير. كان مايك هذا شقياً مشاغباً فوضوياً تائهاً لم تتحمله تلك المدرسة الثانوية وقامت بفصله وانقطع عن الدراسة. سألها الأستاذ: هل لك أن تتصوري أين مايك الآن وماذا يعمل؟ قالت السيدة (الطالبة): أتصور أنه ربما سائق شاحنة في مكان ما. ضحك الأستاذ وقال لها: أخطأتِ، اليوم مايك هو رئيس قسم الهندسة الميكانيكية في إحدى الجامعات في ولاية إلينوي. وفي غمرة الذهول لدى السائلة والطلبة، سرد لهم القصة. فقد قرر مايك بعد أشهر عدة من الضياع والاستهتار بكل شيء أن يلتحق بقوات المارينز في الجيش الأميركي، والانضمام للجيش يعتبر من الأعمال التطوعية في أميركا. شد رحاله على رغم شكوك والده ووالدته بقدرته على البقاء هناك، ذلك أن قوات المارينز هي الأقسى تدريباً والأكثر صرامة في القدرة على التحمّل والمسؤولية.
غابت أخبار الشاب سنتين من دون اتصال، وفي أحد أيام السبت حيث تجتمع الأسرة بكامل أفرادها فوجئ الجميع بدخول مايك عليهم أثناء تناولهم العشاء. سألوه: ما الذي حدث وكيف العمل في الجيش؟ قال لوالده: العمل في المارينز رائع لكنني قررت العودة إلى الدراسة. وهذا ما حدث فقد تخرج في الثانوية وأكمل الجامعة بتقدير ممتاز، وأكمل بعد ذلك درجة عالية في الهندسة الميكانيكية، وعمل أستاذاً ثم عُين مؤخراً عميداً للقسم المذكور.
الالتحاق بالمدارس العسكرية هو المصنع الحقيقي للرجال بل وللنساء أيضاً في الدول العظمى. الذي حدث لمايك وللملايين غيره ممن توقفوا في مدرسة عسكرية في مقتبل العمر، هو نواة الصناعة الحقيقية للقادة المبدعين. قد يحدث لبعضهم تفوق ونجاح هناك من دون المرور على التجنيد العسكري، وهو إجباري في عمر الرجال، لكن ذلك يعتبر الاستثناء من القاعدة.
أتت هذه القصة في ثنايا الحديث الذي دار بيني وبين صديقي خريج جامعة تكساس قبل يومين عن حاجة المملكة ودولنا الخليجية والعربية على وجه العموم، الى بناء كيانات قوية تعتمد على قدراتها الذاتية. التصنيع العسكري بطبيعة الحال على رأس هذه المتطلبات، وهو عنصر مهم في رؤية السعودية، لكنه يتطلب منا قبل ذلك أن نصنع الإنسان القادر على صناعة المدرعة والدبابة والصاروخ. لا يمكن أن يختلف الكثيرون حول ضرورة مرور الشباب على كلية عسكرية في وقت ما من حياتهم العملية بعد التخرج في الثانوية حتى في الدول التي لا تفرض التجنيد الإجباري. الحاجة إلى فتح العمل في القطاع العسكري أمام شبابنا وشاباتنا تطوعاً لمدة سنة أو سنتين مقابل مكافأة رمزية تعادل مكافأة الطالب الجامعي، ستصنع النواة في تكون هذا الشاب وتعلقه بالمسؤولية والانضباط. ليس شرطاً أن يستمر الطالب في السلك العسكري، لكن مع مثل هذه المبادرة سنفتح الباب على مصراعيه لإبراز الإنسان القادر على الإنتاج والمساهمة في بناء الوطن، ليس فقط كرجل عسكري متدرب على استعمال السلاح، بل في أي تخصص يختاره في ما بعد. فضلاً عن ذلك، سيستفيد القطاع العسكري نفسه من التعرف الى المهارات الاستثنائية لدى الشباب، وإغراء بعضهم بالبقاء في الجيش أو الأمن.
على أن النجاح الشامل والمأمول في الرفع من وعي المجتمع ككل وانضباطه وبناء الإنسان بداخله لن يكتفي فقط بمثل هذه المبادرة، بل يجب أن يصاحبها وضع الدولة للمؤسسات المدنية والقوانين، وتطبيق العقوبات. الحديث هنا عن بناء المجتمع الأكثر وعياً وشعوراً بالمسؤولية، وهذه لن تتحقق في الغالب من دون وضع القوانين ومراقبتها كما أشرنا في مقالات عدة سابقة. وللاستدلال على هذا القول، علينا فقط الإشارة إلى ملاحظة مؤسفة، تتمثل في ممارسة التهور في قيادة السيارة، أو في المحافظة على الممتلكات العامة في بلادنا، بواسطة عدد كبير من المواطنين والمقيمين. الفوضى لم تعد قاصرة على الشباب المنفلت، بل امتدت حتى إلى عدد من العقلاء. سبب ذلك ليس حب هذا الشخص هذه الممارسة، بل لأنها أصبحت هي الثقافة السائدة، والوقوف ضد ذلك يضع المرء في خانة الشذوذ عن القاعدة والشعور بالوحدة، وقد يسبب انضباطه حوادث في الطرقات.
نعم وببالغ الأسف، فالملاحظ في مجتمع كالمجتمع السعودي وأنا من صلب هذا المجتمع، أن الشعور باللامسؤولية في استخدام الطريق والتعامل مع المدارس والمحافظة على الأماكن العامة، وما واجهة جدة البحرية الجديدة عنا ببعيدة، قد أصبح ثقافة عامة في المجتمع بسبب غياب العقوبات. وكون هذه الشعوب وأقصد شعوبنا، تعتبر نامية في مقاييس هذا العصر، فهذه المظاهر لم يصنفها العوام من المجتمع عيباً، بل يرونها هي المظاهر الطبيعية، وخصوصاً مع توافر المال الذي أنتجته ثروات الأرض. قد ينهرك شاب عند تنبيهه بعدم جواز رمي العلب الفارغة من السيارة ويقول هناك شركة نظافة. العيب في حقيقة الأمر أن نتحاشى الحديث عن ذلك، ونضع الآمال والأمنيات بوجود المسؤولية بديلاً للتدريب والصقل، ووضع المحكات الحقيقية لمعرفة المعادن.
هناك أيضاً جانب المحفزات لدفع المجتمع إلى الانضباط، وهذا لا يقل أهمية عن غيره، وأقصد تقدير المتقدم للوظيفة في أي مكان يتقدم له عندما تحمل سيرته الذاتية دراسته العسكرية. أو عندما يحمل سجله المدني العدد الأقل من المخالفات والوقائع السلوكية والأخلاقية ونحو ذلك، حتى لو اعترض بعضهم على هذه الفكرة من مبدأ عدم التشهير. لا شك في أن هذا الموظف الجديد الذي تجاوز كل هذه المراجعات سيضفي نوعاً من الانضباط والالتزام في بيئة العمل التي سينضم لها.
بناء الإنسان لا يقل أهمية عن البنى التحتية ووسائل الاتصال وشراء أحدث المعدات وتشييد أفضل الطرق البرية السريعة. الإنسان أولاً ويجب ألا نتردد في عملية هذا البناء. لعلنا نقتبس من شركة «أرامكو» العملاقة مسببات النجاح في توفّر تلك البيئة العالية في إنتاجها وجودتها ونختصر بعض التجارب. من دون ذلك وما لم نحقق هذه المعادلة، ستضيع الكثير من الفرص الهائلة التي ننتظرها في المستقبل القريب، مهما بلغت مستويات المواطنة والتفاني في حب الوطن وترابه لدى الأفراد. الشاب مايك على رغم تمرده لم تنقصه مشاعر المواطنة، ونعلم بالطبع أن الشعب السعودي والعربي على وجه العموم هو كذلك، والعاطفة مهمة، وتوافرها يساعد على القوة، لكنها لا تشكل القاعدة المأمولة في بناء عوامل هذه القوة ومسببات بقائها.