مقالات

الصحافة والأدب واللغة الثالثة

زيد الحلي
برنامج (الشاهد) الذي يقدمه الزميل حسن عبد الحميد، من قناة NRT ضيًف في حلقة الاسبوع الماضي، الاستاذ الدكتور احمد عبد المجيد رئيس تحرير صحيفة (الزمان) طبعة العراق… دار نقاش فيه عن الصحافة والاعلام والدرس الاكاديمي والتأليف والى آخر ما يخص اهتمامات الضيف والمقدم .. فالاثنان اعلاميان معروفان.. غير ان الذي لفت اهتمامي اكثر في حوار البرنامج، موضوعة (الادب والصحافة) وتأثير بعضهما على الآخر في الصحف والصحفيين.. وانا اعرف ان هذا السجال، دائما يأخذ حيزا ملحوظا، في معظم النقاشات التي تتم في الندوات الثقافية، وفي اللقاءات الثنائية بين الادباء والصحفيين..

لا جديد في القول ان الادب الذي كان في العهود المنصرمة، غير الادب الذي عرفناه بعد ظهور الصحافة .. ففي سالف الازمان كان الادب خاصاً بالنخبة، لغته (متنبية، وامرؤ قيسية، وحارثية حلزية، وزهيرية سلمية، ونابغة ذبيانية) الخ، فيما بعد ظهور الصحافة، وانكباب الادباء على الكتابة فيها، اصبحت اللغة الادبية اكثر سهولة، لأنها موجهة لعامة الناس من القراء.. وبسطور وجيزة، اقول ان الصلة وثيقة جدا بين الادب والصحافة، فالصحافة برمتها، هي بنت الادب .. والادب خالد، والصحافة غير خالدة.. واكيد ان معنى الخلود معروف لدى الجميع..!

ما أثار اهتمامي، جزئية مهمة ذكرها الزميل د. احمد عبد المجيد، بقوله (ان الصحافة الحقة، هي التي تكتب بلغة ثالثة) فهذه عبارة جديدة عليً، في المسمى، لكني المسها عند العديد من الكتاب المرموقين، لاسيما كتاب الاعمدة الصحفية .. فهي ليست لغة (مهلهة) بعيدة عن الجزالة، انما هي لغة راقية، تستمد رقيها من اصالتها، فهي لغة كاملة محببة عجيبة، تكاد تصور ألفاظها مشاهد الطبيعة، وتمثل كلماتها خطرات النفوس، ونبرات الحياة..

اقترح، ان تدخل عبارة (اللغة الثالثة) في قاموس الصحافة، اكاديميا وتداولاً، بدلاً عن الكلمة الرخيصة التي نسمعها بين آونة واخرى، من ان الصحافة هي مجرد (لغة جرايد)..

ان (اللغة الثالثة) في الصحافة، هي تلك التي تكره التعبيرات المتوارثة، وتبحث عن مفردات رفيعة، راقية المورد والجريان والمصب، سامية الإيراد والموضع والمنزلة.. وتحفل بصور حياتية، مؤتلفة، مفعمة بالعواطف واللفظ المتفجر، والجمل القصيرة، السهلة الممتنعة .. وهي لغة حين يمسكها صحفي كفء، يطير بواسطتها مثل فراشة ملونة في سماء الابداع الصحفي، لأنها تحب الايجاز القوي المتماسك في عباراتها وذات حضور جمالي مع البساطة..

فاللغة التي ابتدع اسمها صديقي وزميلي د. احمد عبد المجيد، تدعو من يمارسها، الى غربلة الحقائق الملتقطة، ضمن تحليل منطقي يتلمس خطوطها بأمانة وثقة، وربط المقدمات بالنتائج بخيط دقيق لا يكاد يستبين، مؤلفا ما بين اطراف الكلمات المبعثرة، متدرجا من التفصيل الى التركيز ومن التركيب الى التحليل.