مقالات

العقوبات على روسيا تفعل فعلها

إنها تضعف بوتين بشكل بطيء ولكنه أكيد

فلاديمير ميلوف  

مكتب صرافة في سانت بطرسبورغ، روسيا، يناير 2022 (رويترز)

ثمة اعتقاد سائد بأن العقوبات الغربية على روسيا فشلت. ويلفت أنصار هذه النظرية إلى مؤشرات الاقتصاد الكلي التي تفيد بأن الاقتصاد الروسي أثبت أنه مرن. ويسلط هؤلاء المنتقدون الضوء أيضاً على كيفية إخفاق العقوبات في تحقيق التأثير المبتغى منها. وعلى أي حال، لم يبادر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين [حتى الآن] إلى إنهاء حربه الكارثية ضد أوكرانيا.

في المقابل، إن هذه الحجج مضللة. ومن المهم أن يلاحظ المرء أن الفرصة سنحت لروسيا قبل إعلان بوتين الحرب، كي تخفف الضغوط التي يعانيها اقتصادها بسبب العقوبات الغربية المفروضة عليه. في المقام الأول، راكمت روسيا احتياطات مالية كبيرة. فزادت منذ عام 2014 تبادلاتها التجارية مع آسيا، الأمر الذي سمح لها بالتعويض عن التراجع في نشاطاتها التجارية مع الغرب. والأهم من ذلك، أن بوتين قد عزز بقوة آلته القمعية من أجل ردع الاحتجاجات الجماعية على تدهور معايير المعيشة. ونظراً إلى هذه الأسباب كلها، فإن التوقعات أن العقوبات الغربية ستؤدي إلى تفكك الاقتصاد الروسي، ومعه نظام بوتين، على وجه السرعة، كانت تكهنات غير واقعية.

لقد استثمر بوتين موارد كبيرة في حملة معلومات مضللة تهدف إلى خداع صناع السياسة الغربيين في شأن الآثار الحقيقية للعقوبات. ولكن، يجب ألا نخطىء. ففي الواقع، تعرقل العقوبات الاقتصاد الروسي. ولا ننسى أن ترويج لأسطورة مفادها بأن العقوبات ليست فاعلة، ربما يدفع صناع السياسة إلى التخلي عنها، الأمر الذي يوفر لبوتين شريان حياة.

بيانات سيئة

يستند التأكيد القائل إن الاقتصاد الروسي أظهر مرونة ملحوظة في مواجهة العقوبات، إلى مؤشرات خادعة تتعلق بالاقتصاد الكلي. وأولئك الذين ينتقدون العقوبات، يشيرون على وجه الخصوص إلى الروبل الذي تعززت قوته والانكماش المتواضع في الناتج المحلي الإجمالي الروسي ومعدل البطالة المنخفض. في الواقع، لا تعبر هذه الأرقام عن الوضع على الأرض.

تأمل البطالة، مثلاً. يبلغ معدل البطالة الرسمي في الوقت الحالي 3.7 في المئة، مع وجود 2.7 مليون روسي عاطلين من العمل. وهذا مستوى منخفض بشكل قياسي. ومع ذلك، في الحقيقة لقد تعرض نحو 5 ملايين عامل روسي إلى أشكال متعددة من البطالة المستترة في نهاية الربع الثالث من عام 2022. وتمثل الأوضح بين هذه الأشكال في إعطاء 70 في المئة من هؤلاء العمال إجازة غير مدفوعة الأجر. وإذا كان الفارق بين حصول المرء على إجازة غير مدفوعة الأجر وبين كونه عاطلاً من العمل يبدو تبايناً في دلالات الكلمات فحسب [لأن جوهر الحالتين واحد]، فإنه كذلك بالفعل. والحقيقة أن 10 في المئة من قوة العمل الروسية تبقى حالياً من دون عمل. ومن الممكن مقارنة هذا الوضع بأسوأ مستويات البطالة في تسعينيات القرن الماضي، حين تراوحت نسبة الروس العاطلين من العمل خلال النصف الثاني منها بين 10 و13 في المئة.

وهناك إحصاء آخر مضللة، يتمثل في سعر صرف الروبل. صحيح أن قوة الروبل تعززت، ولكن يعود ذلك لأن الحكومة جعلت من الصعب على الشركات والأفراد الروس سحب الأموال وتحويلها إلى عملات أجنبية. ويجري دعم ما يسمى “الروبل القوي” عن طريق ضوابط صارمة على العملة، إضافة إلى ما حدث من هبوط في الواردات. وألحقت هذه السياسة ضرراً فادحاً بصناعات كقطاع صناعة الفولاذ، إذ تقلص الإنتاج النهائي للفولاذ بما يزيد على 7 في المئة عام 2022. 3العقوبات على روسيا تفعل فعلها

يشير صناع السياسة ممن ينتقدون العقوبات إلى توقعات وزارة المالية الروسية أن الناتج المحلي الإجمالي للبلاد سينكمش بـ2.7 في المئة الأمر الذي من شأنه أن ينسف الزعم بأن الاقتصاد [الروسي] يتراجع، وفق ما يبدو. مع ذلك، فلنلاحظ أن هذه النسبة التي تمثل الناتج المحلي الإجمالي تشمل ارتفاعاً كبيراً في الإنتاج المرتبط بالجيش. إن دبابة جرى إنتاجها حديثاً وأرسلت بشكل فوري إلى الجبهة وتعرضت للإصابة بصاروخ “جافلين” أوكراني، تستمر اسمياً في الظهور ضمن الناتج المحلي الإجمالي الروسي.

يجب ألا نخطىء. ففي الواقع، تعرقل العقوبات الاقتصاد الروسي

وعلى أي حال، تظهر المؤشرات انكماشاً اقتصادياً أكثر خطورة بكثير مما تشير إليه أرقام الناتج المحلي الإجمالي الرسمية. يمكن التنبه إلى إن المؤشر الأكثر قدرة على كشف النشاط الاقتصادي الروسي يتمثل في الإيرادات من مصادر أخرى غير صادرات النفط والغاز، وقد انخفض هذا المؤشر بنسبة 20 في المئة في أكتوبر (تشرين الأول) 2022 عنه في العام السابق. ونالت الصناعات التحويلية حصة الأسد من الضرر الناجم عن العقوبات، ذلك أنها تمثل الجزء الأكثر اعتماداً في الاقتصاد الروسي على التقنيات الغربية وأجزاء المكونات الآتية من الغرب. وعام 2022، انخفض إنتاج صناعة السيارات الروسية التي توفر وظائف بشكل مباشر أو غير مباشر لـ3.5 مليون شخص، بما يعادل ثلثي حجمه قبل الحرب.

وثمة تضليل في الأرقام الروسية التي تظهر مستويات تضخم يمكن السيطرة عليها. فحتى البنك المركزي الروسي يفيد حالياً بأن الدراسات الاستقصائية تورد أن التضخم المسجل، أي كيف ينظر العامة إلى الزيادة في الأسعار، يبلغ 16 في المئة، أي أنه أعلى بأربع نقاط مئوية من الإحصاء الرسمي، وهو أقل من 12 في المئة بقليل. واستطراداً، إن الفجوة بين الأرقام الرسمية والتجربة التي يعيشها الناس مفهومة، لأن مستويات معيشة الروس آخذة في التدهور بشكل حاد. ووفقاً لاستطلاع أجرته شركة البحوث الروسية الخاصة “رومير” في أكتوبر 2022، لاحظ 68 في المئة من الروس المشاركين انخفاضاً في إمدادات السلع المعروضة في المتاجر خلال الأشهر الثلاثة الماضية. وطبقاً لـ”مركز بحوث الرأي العام الروسي”، فقد أجبر 35 في المئة من الروس على خفض ما ينفقونه على الطعام عام 2022. وأفادت “مؤسسة الرأي العام”، وهي منظمة استطلاعات رأي روسية، في ديسمبر (كانون الأول) 2022 بأن 23 في المئة من الروس اعتبروا أن وضعهم المالي الشخصي “جيد”.

الأمور لا تتحسن

باختصار، تؤثر العقوبات تأثيراً عميقاً في الاقتصاد الروسي. وتشتمل محاولات بوتين تحسين الآفاق المالية لبلاده على إيجاد بدائل محلية عن السلع المستوردة، أو تفضيل تنمية الصناعات المحلية وتقليل الاعتماد على المواد المصنعة المستوردة، وإعادة توجيه تدفقات التجارة والاستثمار إلى آسيا، والحصول على أشباه الموصلات والسلع الأخرى من دول كتركيا للالتفاف على العقوبات الغربية. لكن لن تحل أي من هذه الأساليب مشكلات روسيا.

بايدن يتحدث بشأن أسعار الغاز في واشنطن بتاريخ يونيو 2022

بايدن يتحدث بشأن أسعار الغاز في واشنطن بتاريخ يونيو 2022  (رويترز)

واستطراداً، ليس من المجدي الاعتماد على السلع المحلية كبديل لنظيراتها المستوردة، وذلك لأسباب واضحة. وتسليم الحصة السوقية للشركات التي تعتمد على بيئة احتكارية عالية يؤدي دائماً إلى سلع أقل جودة وأعلى ثمناً. وكذلك لا تؤدي تلك الخطوة إلى تحفيز الابتكار، ولا تشجع على صنع منتجات أفضل.

في سياق متصل، غالباً ما ينصب اهتمام دول آسيوية كالصين والهند على شراء المواد الخام الروسية الرخيصة كالنفط والغاز والفحم والأخشاب المستديرة، بخصم كبير. ولا يبدي قادة تلك البلدان اهتماماً بمساعدة روسيا في تطوير قطاعات التصنيع التنافسية الخاصة بها.

في سياق موازٍ، لقد نجحت روسيا إلى حد ما في التحايل على العقوبات من خلال استيراد سلع حيوية من إنتاج الغرب، على غرار قطع الغيار من أجل الاستمرار في التصنيع، عن طريق دول أخرى، في مقدمتها تركيا. وقد ارتفعت الواردات الروسية من هذه الدولة بحلول الربع الثالث من عام 2022، إلى ما يزيد على مليار دولار شهرياً، بمعنى أنها بلغت حوالى ضعفي قيمة الواردات في ربع السنة نفسه من العام السابق. لكن الحكومات الغربية قد تستخدم الضغوط الدبلوماسية في سد هذه الثغرات. ولا يستطيع بوتين الاعتماد على الاستثمار الأجنبي من أجل دعم الاقتصاد الروسي. ومن المتوقع أن يكون هروب رؤوس الأموال من روسيا عام 2022 وصل إلى 251 مليار دولار، وفقاً للبنك المركزي الروسي.

في إطار أكثر اتساعاً، لا تعني تلك المعطيات كلها أن حكم بوتين على وشك الانهيار. لقد دمر بوتين المعارضة السياسية المنظمة بعدما سجن المعارض البارز أليكسي نافالني، وأرسل معظم الشخصيات المعارضة البارزة الأخرى في روسيا إلى السجن أو المنفى. لقد نجح في ترهيب الشعب الروسي من خلال فرض عقوبات قاسية بالسجن على أولئك الذين يحتجون على قيادته، إذ يواجه الروس أحكاماً بالسجن قد تصل إلى 15 عاماً بتهمة “التطرف السياسي” أو “تشويه سمعة القوات المسلحة الروسية”.

في المقابل، يتجه الرأي العام ضد بوتين. ووفق ما اتضح خلال تفكك الاتحاد السوفياتي، يمكن للتغير أن يحصل بسرعة بمجرد خروج السخط العام المكبوت منذ فترة طويلة إلى العلن. ولهذا السبب، يتوجب على صناع السياسة أن يمنحوا العقوبات وقتاً [كافياً] كي تفعل فعلها. إن توقع نتائج فورية أمر غير واقعي، بل إنه يأتي بنتائج عكسية. ربما تردع العقوبات السلوك العدواني لروسيا، مع مرور الوقت. ويتعين على صناع السياسة الغربيين إجراء تحليل مفصل لتأثير العقوبات بدلاً من قبول [ما توحي به] مجموعة ضيقة من المؤشرات التي جرى التلاعب بها. وفوق كل شيء، يجب أن يكونوا صبورين.

فلاديمير ميلوف هو نائب الرئيس لشؤون التأييد الدولي في مؤسسة “روسيا الحرة”، إضافة إلى أنه نائب سابق لوزير الطاقة الروسي.

مترجم من “فورين أفيرز”، يناير (كانون الثاني)/ فبراير (شباط) 2023

admin