مقالات

الغضب الساطع حتى أعمى بصائر

بقلم خالد البري



الصراع مستمر في التاريخ. يخسر فريق ويكسب آخر. تماما كما يموت أفراد ويولد آخرون، ونحزن ونفرح .

لكننا نخطئ إن خلطنا بين مظاهر الحزن وبين الحزن. إن جعلنا الأولى مقياسا للثاني. هذا الخطأ يتحول إلى نفاق اجتماعي يتكسب منه أصحاب مهنة نسميها في الريف المصري، الندابة، ولا يكسب منها أهل الفقيد أو الفقيدة شيئا.

في السياسة أيضا. لا يمكن أن تلوم من فقد أرضه على الغضب. لكن تذكره أن الغضب، والحزن، إن أكل أهل المكلوم أضرهم. إن انزووا وأطلقوا لحاهم وتوقفوا عن أعمالهم أضرهم. وإن أغرقوا أنفسهم في جلسات الندب غشيت أبصارهم عن رؤية الطريق. وأن رابطي الجأش، العمليين، الذين يفكرون بعقولهم، هم من ينفعون أهلهم.

القضية الفلسطينية في حاجة دائمة إلى هذه الخبرة الاجتماعية. لكن ‘الغضب الساطع’ ومروجيه يقودون المشهد منذ عقود. نجحوا في إقناع الجماهير بأنهم الأكثر وطنية. ولم يكونوا كذلك. كانوا إما صادقين تعوزهم رباطة الجأش والتفكير العملي، وإما منافقين يتاجرون بحرفة اللطم السياسي.

نعم، وبموجب القانون الدولي، لقد ضُيِّع حق الفلسطينيين، واستلبت أرض لهم. لكن من وجهة نظر السياسة، ليست تلك أول مرة ولن تكون آخرها. السؤال الحتمي: لماذا حدث؟ لسبب واحد. موازين القوى. أورشليم، بيت المقدس، وما حولها، منطقة ملكية متنازعة، تداولتها أيد كثيرة على مدار التاريخ. بفعل عامل واحد. ميزان القوى.

فكيف إن أردت أن تبقي عليها تغفل عن هذا العامل ومقوماته الحقيقية. لا. ليست مقوماته كتائب الأقصى ولا ميليشيات القدس. إن أردت أن تعرفها انظر إلى إسرائيل. مجتمع علمي حديث، منتج، يربط نفسه بمصالح مجموعة من القوي العالمية، ويرى نفسه في إطار هذا المشهد المتكامل. ثم قارنه إن شئت بطرف آخر.

قوى إقليمية تبيع للمكلومين بضاعة شق الجيوب الجنائزية، وبدل الصريخ في الجنازات تقدم الخطب. تقنعهم بأن أفضل طريقة لاسترجاع ما فقدوا أن تستمر الجنازة ساخنة، لا تهدأ أبدا، أن يعيش الجميع في حداد لأطول فترة ممكنة. تشير لهم هنا وهناك على عادة نميمة الجنائز: هذا حزين بما يكفي، أما هذا، انظروا، إنه يبدو غير مبال.

لكن الأحداث تسري، وفي ظل هذه الغفلة والتفكير العشوائي، يموت عنصر جديد. ثم عنصر جديد. ثم عنصر جديد. يتشابك أهل الفقيد في خناقات بينية. ثم تصير الخناقات البينية تجارة في حد ذاتها. دليل وطنية في حد ذاته.

أين المصلحة؟ أين التفكير؟ أين نموذج القيادة الرشيدة الذي تقدمه للعالم دليلا على أنك أهل للمسؤولية؟ صه!! ما هذا أيها المتخاذل الجبان. قاطعوه. اغتالوه. شوهوا ذكره.

لقد صار عندنا حماس. وحماس هجمت على فتح. حماس في طريقها إلى القدس. حماس انحسرت في قطاع غزة.

عندنا حزب الله وميليشيات القدس من جمهورية إيران. حزب الله يضرب حيفا. حزب الله في طريقه إلى القدس. حزب الله يرتد إلى لبنان، ويطارد طوائف لبنانية. حزب الله يذهب إلى سوريا، ميليشيات القدس تذهب إلى سورية. حزب الله يقاتل في العراق، ميليشيات القدس تقاتل في العراق. حزب الله يدرب في اليمن، ميليشيات القدس تمول وتسلح في اليمن لضرب السعودية.

الإخوان المسلمون يهتفون: ع القدس رايحين شهداء بالملايين. لكن لا بد أن نغزو مصر أولا، من ليبيا، ومن سيناء. وأن نحطم معنويات الجيش المصري. هذه خطوة ضرورية في الطريق إلى القدس.

والناس تغني الغضب الساطع آت. يبدو أنه ساطع إلى درجة إعماء البصر، ساطع في الاتجاه الخطأ. تحتاج نورا ساطعا يشرق إلى الإمام، فيفتح للبصيرة مجال الرؤية، ويقودك إلى ”وضع أفضل“، ثم أفضل، ثم أفضل. تحتاج أن تفهم موطن مكسبك في القدس، فلا ترفع شعارا أنت خاسر فيه، في نظر ‘القوى الفاعلة’.

تحتاج أيضا إدراك موقعك في المشهد الكامل. من سيقف إلى جوارك وأنت تؤيد الإرهاب! من تنادي وأنت تؤيد من يخربون بيوت جيرانك! من تنادي وقد جعلت نفسك طرفا في الخلافات البينية، وأذكيتها.

 

السياسة لا تقاد بالمشاعر. ولا تقاد بالأغاني. ستنعتني بما تعودت أن تنعتني به. وستحتاج مرة ألفا لكي تدرك أنك مخدوع في الندابة المستأجرة.