مقالات

اللعبة غير الممكنة

 
آيات عـرابي
 
الحالة المثلى التي سعى لها الانقلاب في مصر، هي أن ينفرد بالساحة السياسية وحده، وربما كان لهذا فوائد كثيرة من وجهة نظر العسكر.
 
 
بعد الثورة في مصر، سعى العسكر سعيا حثيثا لإعادة التموضع في بيئة سياسية “مكفهرة حذرة”.
 
 
كان سباقا للحصول على أكبر قدر من المزايا في بحر متلاطم من العواصف السياسية، وتفكك عُرى السيطرة العسكرية على الشعب، وهي أجواء بدا فيها الشعب وقد استعاد زمام القيادة من جديد بعد أن غيبته عقود من القهر العسكري.
وربما كان من الباعث على الحسرة، في خضم الأحداث الدامية المتسارعة التي لا تترك لأحد فرصة لالتقاط أنفاسه، أن ننفض الغبار عن ذاكرتنا قليلا ونتذكر الرسالة رقم 22.
 
 
تلك الرسالة التي تبدو مثيرة للدهشة الآن. بدأت الرسالة أو البيان بجملة (اعتذار ورصيدنا لديكم يسمح)، وكانت عبارة عن اعتذار عن العنف الذي تصرفت به الشرطة العسكرية ضد المعتصمين في جمعة الوفاء يوم 26 شباط/ فبراير، التي وصفتها الرسالة بـ(الاحتكاكات غير المقصودة) التي أكدت بلهجة قاطعة أنه (لم ولن تصدر أوامر بالتعدي على أبناء الشعب العظيم)!!
 
 
ولنجهد أنفسنا في البحث في تلك الأحداث المتوارية خلف سنوات من الانقلاب، لنصل إلى تلك المشاهد التي نزل فيها طنطاوي إلى شوارع القاهرة، مرتديا الزي المدني لأول مرة، ولنتذكر كيف كانت ردود الفعل العاصفة.
 
 
الرفض تلك المرة كان واضحا وقصيرا. الشعب فهم الرسالة، وأدرك أن المجلس العسكري يعرض أحد أعضائه للترشح، ويسأل الشعب عن رأيه، والشعب رد بحرفين فقط، فتراجع المجلس العسكري، ولم يكرر المحاولة.
 
 
هذه الأجواء الكاسحة التي ظهر فيها الشعب ممسكا بزمام الأمور، وبدا فيها المد أعلى من قدرة العسكر ومؤسساتهم على الفعل، وأزت فيها رياح التغيير عاتية منذرة كل من يتحداها، هي الأجواء التي كان من الممكن فيها أن ترى المجلس العسكري يتحايل للحصول على امتيازات، وأن يطل برأسه كواحد من أطراف عدة وليس طرفا وحيدا مسيطر.
 
 
هذه الأجواء التي اعتذر فيها المجلس العسكري هي ذاتها الأجواء التي مكنت الجميع من إلغاء ما عُرف وقتها باسم وثيقة السلمي، بمجرد التظاهر في ميدان التحرير.
 
 
لا شك أن هذه التفاصيل كانت تزعج المجلس العسكري بشدة، فالشعب كان يرفع أصبعه في وجه المجلس العسكري، ممليا إرادته ولأول مرة منذ عقود طويلة.
 
 
شهور طويلة من العمل العسكري الإعلامي للانتقال من مرحلة (اعتذار ورصيدنا لديكم يسمح) إلى مرحلة (قد الدنيا)، شهور طويلة مرت جرى فيها شيطنة كل شيء له علاقة بالتغيير وبالثورة.
 
 
شهور عمل فيها الانقلاب على تقطيع أوصال تلك الحالة من الرفض وإصابة كل الأطراف بالوهن، والعمل على إزكاء المطامع الحزبية الضيقة، وعمل فيها على عزل الإخوان المسلمين عن الحاضنة الشعبية.
 
 
وبعد الانقلاب، أصبح الجيش في مصر مسيطرا بشكل فعلي على كل شيء. وامتدت أذرع المؤسسة العسكرية إلى كل نشاط تجاري أو اقتصادي.
 
 
كان الوصول إلى هذه المرحلة قد كلف الكثير. ورغم رائحة الدماء التي تصاعدت من مجازر عدة في رابعة وغيرها، ورغم تلك السحب من الدخان الكثيف التي غطت كل شيء، بدت النشوة على العسكر وهم يعسكرون كل شيء، ويضعون لافتاتهم وأسلاكهم الشائكة حول كل شيء في مصر.
 
 
ومع تلك السيطرة الكاملة، وذلك الخواء المسيطر على المشهد الذي تتصاعد فيه بعض أصوات معسكر الثورة المضادة، مستحسنة بصورة بدت للجميع شديدة الفجاجة، بدأت بذرة الانهيار تنمو شيئا فشيئا.
 
 
اللعبة ذاتها فقدت أهم عواملها، وهو وجود الخصم. العسكر يبدون كخصم يلاعب “لا أحد”.
 
 
اللاعبون يحتاجون للاعبين للانتصار عليهم، والمباريات يلعبها لاعبان. وما لم ينتبه إليه العسكر في خضم محاولتهم الانفراد بالساحة السياسية في مصر أنه عندما يتم إسكات الخصوم يصبح الانتصار غير ممكن، لأن اللعب نفسه غير ممكن، بالتالي فمن غير الممكن أن تتحسن قدرات اللاعب الذي يقف وحيدا في الملعب، بل على العكس، تستمر قدراته في الهبوط بالتدريج.
 
 
ما فعله العسكر حين سعوا لإسكات خصومهم، هو أنهم حرموا معسكرهم نفسه من الأمل حتى في الانتصار.
 
 
ما فعله العسكر هو أنهم في الحقيقة زرعوا بذور فشلهم الحالي بأيديهم، حين سعوا للانفراد بالساحة، وأصبحوا يلعبون لعبة غير ممكنة.