مقالات

اللقاء الذي لم يتم في باريس بين ويلسون وهوشي منه

محمد م. الأرناؤوط
 
 
تمرّ في هذه الأيام الذكرى السنوية لانعقاد “مؤتمر الصلح” في باريس بعد انتهاء أول حرب عالمية، التي سُمّيت لذلك “الحرب العظمى”، والذي أثار آمال الشعوب بعصر جديد تحترم فيه إرادتها في التحرر والاستقلال من حكم الامبراطوريات التي خاضت الحرب لأجل توسيع مناطق سيطرتها في العالم.
 
 
انتعشت آمال الشعوب للتحرر والاستقلال في أوروبا وآسيا وأفريقيا في العام 1917 بشكل خاص، نتيجة للمستجدات في الشرق (الثورة الروسية) والغرب (الولاية الثانية للرئيس الأميركي وودرو ويلسون) التي تمحورت حول حق الشعوب في تقرير المصير، وحتّمت تأسيس نظام عالمي جديد بديلاً من الأوتوقراطية والإمبريالية.
 
وكان الرئيس ويلسون رفض في ولايته الأولى الدخول في الحرب بين دول الحلفاء ودول الوسط، باعتبارها حرباً إمبريالية لأجل التوسع وليس لأجل المبادئ. وحتى عندما توجه إلى الكونغرس في الثاني من نيسان (أبريل) 1917 لنيل الموافقة على إعلان الحرب على ألمانيا بعد “حرب الغواصات” التي أدت إلى سقوط ضحيا أميركيين ومحاولتها إغراء المكسيك بالدخول في حلف مع ألمانيا ضد الولايات المتحدة، إذ ربط ويلسون الحرب بألمانيا فقط وبأفكار جديدة كان بشّر بها لعالم ما بعد الحرب على أساس أنه يخوض “حرباً تنهي كل الحروب”.
 
في ذلك الحين، قامت الثورة الروسية الأولى، ثم أعقبتها الثورة الثانية في تشرين الثاني (نوفمبر) 1917 التي حملت البلاشفة إلى الحكم. وفي هذا السياق، كشفت السلطة الجديدة عن المعاهدات السرية بين الحلفاء (روسيا القيصرية وفرنسا وبريطانيا) لاقتسام العالم، وأحرجت الحلفاء الذين كانوا يدّعون أنهم دخلوا الحرب لحماية الشعوب الصغيرة (بلجيكا وصربيا). وفي الوقت الذي رفع فيه لينين شعاره “حق الشعوب في تقرير المصير”، انتقد ليون تروتسكي مفوض الشؤون الخارجية في 29/12/1917 دول الحلفاء بعد كشف المعاهدات السرية بالقول: “هل هم يرغبون في منح تقرير المصير لشعوب ايرلندا ومصر والهند ومدغشقر واندونيسيا وغيرها؟”.
 
بعد إطلاق شعار “حق تقرير المصير” الذي سرى كـ”التيار الكهربائي” بين الشعوب المضطهدة، تقدّم الرئيس ويلسون بعد أسابيع بالنقاط الـ 14 إلى الكونغرس في 8/1/1918 التي حددّ فيها أكثر ملامح النظام العالمي الجديد بعد نهاية الحرب، وخصّ بالذكر شعوب الشرق الأوسط بعد انكماش الامبراطورية العثمانية إلى دولة واحدة للأتراك (تركيا في آسيا الصغرى). وتركت هذه النقاط الـ 14 بدورها تأثيرها الكبير في المستعمرات، ويكفي أن نأخذ مثالا على ذلك الصحافة المصرية في تلك الفترة.
 
وبسبب الحماسة التي أثارها شعار البلاشفة عن حق الشعوب في تقرير المصير أو النقاط الـ 14 التي طرحها ويلسون في الكونغرس كأساس لنظام عالمي جديد، لم يعد في وسع دول الحلفاء أن تتجاهل ذلك. وبعبارة أخرى، إذا كان في وسع بريطانيا وفرنسا تجاهل دعوة لينين الشعوب إلى الثورة بناء على حق تقرير المصير، فإنه لم يكن بإمكانها أن تتجاهل دعوة الرئيس ويلسون إلى “حق المحكومين في اختيار حكامهم”، لأن الولايات المتحدة كانت تمدّ الحلفاء بالمؤن والعتاد والقروض التي كانوا في أمسّ الحاجة إليها. أدى هذا برئيس الحكومة البريطانية لويد جورج إلى أن يعيد من جديد تحديد أهداف بريطانيا من الحرب الدائرة في 5/1/1918 ويقول إن “تسويات ما بعد الحرب يجب أن تحترم حق تقرير المصير أو قبول المحكومين (بالحكومات الجديدة)” ليدمج بذلك بين ما طرحه لينين وويلسون!
 
عندما انتهت الحرب وذهب الرئيس الأميركي إلى فرنسا لحضور “مؤتمر الصلح” في باريس كانت الملايين في استقباله من ميناء بريست (Berest) إلى باريس باعتباره “رسول السلام” ومحقق آمال الشعوب. وفي هذا السياق كانت الوفود والشخصيات والعرائض تنهال على ويلسون لمقابلته ومناشدته في التدخل لأجل قضاياهم العادلة.
 
من بين هذه الشخصيات، جاء شاب في الثامنة والعشرين من عمره من الهند الصينية التي كانت تحت الحكم الفرنسي ليطلب مقابلة الرئيس ويلسون في شهر حزيران (يونيو) 1919. كان اسم الشاب نغوين تات ثان Nguyen Tat Thanh ويعمل مساعد طبّاخ، وأعد مذكرة بعنوان: “مطالب شعب آنام” باسم نغويين آي كووك أي “نغوين الوطني” بالاعتماد على أفكار الرئيس الأميركي، الذي كان برز آنذاك باعتباره “بطل حقوق الشعوب” و”رسول العصر الجديد في الشؤون الدولية حيث وليست القوة يجب أن تكون مبدأ العلاقات الدولية”.
 
مع هذه الحماسة لأفكار ويلسون، التي أشار إليها في مذكرته، طلب نغوين تات ثان مقابلة الرئيس الأميركي ليعرض عليه قضية شعبه في الهند الصينية التي كانت تحت الاستعمار الفرنسي. ووفق بعض المصادر، استأجر الشاب نغوين بدلة تليق بلقاء رئيس الولايات المتحدة في الصباح، ولكن هذا اللقاء لم يتحقق ولا يوجد ما يشير إلى أن الرئيس قرأ المذكرة المذكورة.
 
أما السبب في ذلك، فهو أن ويلسون، الذي جاء بكل حماسة إلى باريس، خاض في أوحال الحلفاء المنتصرين، ولم يعد هو ذاته بعد أسابيع حين جاء الشاب نغوين لمقابلته بسبب التنازلات التي أبداها أمام بريطانيا وفرنسا. ولذلك لم يكن من المستغرب أن يتوجه نغوين الشاب إلى الشرق، ليتبنى البلشفية وشعارها في حق الشعوب في تقرير المصير ويقود شعبه في معركة طويلة انتهت في العاصمة الفرنسية أيضا في عام 1973 مع التوقيع على “اتفاقية باريس للسلام”.
 
لم يكن نغوين تات ثان سوى هوشي منه!
 
*مدير معهد الدراسات الشرقية في بريشتينا- كوسوفو