مقالات

الميثاق العظيم

 
د. أثير ناظم الجاسور
 
عند قراءة سير الأمم والشعوب وما عاشته من سنوات طوال من العبودية والاستغلال والظلم وفق نظام الطبقات الذي خلق تسلسلاً هرمياً لتلك العبودية ابتداءً من المأكل والملبس وانتهاءً بالحفاظ على الحياة أو خسارتها، نرى أن هذه الشعوب متمسكة بمقدسها الذي حاولت الحفاظ عليه بناءً على تراكمات فكرية إلى جانب تراثها ومشتركاتها الدينية والاجتماعية التي ساهمت في تقييد الفكر والحريّة لتجعل من هذا الإنسان أسير سيّده وتحت كل المسميات، ومن المعروف أن الميثاق الأعظم أو العهد الأعظم جاء بعد تعاظم الظلم والطغيان والحقوق المهدورة ووجد من أجل تخليص البشر ومقدراتهم من عبث الحاكم وحاشيته، ويحدثنا عن سعي تلك الشعوب والأمم وبخاصة في بريطانيا في تلك الفترة، للحصول على حرياتهم وحقوقهم التواقين إلى نيلها بعد قرون من الاضطهاد والتبعية العمياء لذلك المقدس الذي فقد قداسته بمجرد أن تحرر فكر الإنسان من تلك الأفكار الاستعبادية.
في الحقيقة أن الشعوب قد تنال حريتها بعد أن تتخلص من عادات عاشت عليها لا أساس لها من حيث المنطق والعلم، فقداسة الأشخاص واتباعهم هو واحد من عادات توارثتها هذه الشعوب لا لشيء سوى هي طرق للخلاص بمرور الزمن تحولت إلى عادات وثقافات تعشش في عقول الكثيرين، غير مدركين خطورتها وتأثيرها في الأجيال، وفي الدول العربية عاشت هذه المعتقدات ولقرون حتى باتت مسارات حياة لا يمكن الاستغناء عنها سواءً سياسياً أو دينياً وما آلت إليه الأوضاع في هذه الدول من سوء هو نتاج لتلك الممارسات غير المنطقية أو قد يسمّيها البعض الانقياد الأعمى، بالتالي فإنّ الثورات والحركات الاحتجاجية التي عمّت دول هذه المنطقة كانت ردة فعل على الممارسات التي كانت تمارس عليهم وصحوة شعوب.
في العراق الحال نفسه موروثات وعادات وتقاليد لا أساس علمي لها على الإطلاق بالرغم من المعاناة التي عاشها العراقي، إلا أنه لا يزال يقدّس وينزّه ويتبع دون تفكير، فسواء كان نظام الحكم حزباً واحداً أو تعددية حزبية هو الحال لا يتغير، من أن في السلطة هم منزهون لا يمسّهم الضر، أما الباقون فهم في أدنى مستويات الحياة لا بل يفتقدون لأبسط سبل العيش البشري، بالتالي فإن القدرة على نيل الحياة الكريمة تكون من خلال تفويض السلطات إلى من يستحقها وفق ما له من منجز يذكر في الحياة العلمية والعملية، وهذا من خلال إدراك الشعب أنه مصدر السلطات وله القدرة على تخويل من يدير شؤونه قد لا يكون من خلال عقد مكتوب كما العهد الأعظم لكن من خلال الإرادة والواجب الذي يحتم على الجميع السير في ضوء مبادئ وطنية بعيدة عن التخندق والجبهوية والحزبية.
إن الميثاق الحقيقي سواء كان عظيماً أم كبيراً صغيراً، هو ذلك الذي تأكده الشعوب وترسم حروفه بعد أن تترك قضية تقديس القائد أو الشخص والآخر الذي لا يعدو عن كونه بشراً خطّاءً سواء كان دينياً أو سياسياً أو ثقافياً، وأن يدرك الجميع أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم لا تعدو عن أن تكون وفق المفاهيم الحالية، علاقة الموظف بالمواطن، فالأول بدوره يعمل على تلبية متطلبات الثاني، والثاني هو سبب وجود الأول في مكانه، والتبعية العمياء لا تجدي نفعاً بل تعزز الظلم والاضطهاد والخوف وتعطي انطباعاً للحاكم أو ذلك الشخص المقدّس هو الأعلى وواجب اتباعه، بالتالي فهي علاقة تبادلية بين الطرفين تحتاج إلى أن ترسم معالمها وفق مقتضيات التطور الحاصل في العلاقة فيما بينهم، والمقدّس الوحيد هو الإنسان الذي كان وما زال محمور الشرائع والمعتقدات، وضمان حريته وحقوقه وحياته هو أساس وجود الدول وما وجدت المواثيق والعهود والاتفاقيات إلا لسعادته وحفظ كرامته وأمنه.