مقالات

اهوار العراق درر العراق

اهوار العراق درر العراق ! بقلم د. رضا العطار

تعود بذرة اهتمامي باهوار العراق الى النصف الثاني من القرن الماضي عندما اُكرمني احد المراجعين لعيادتي الخاصة في بغداد، عام 1974 ، وهو احد وجهاء مدينة الناصرية ! حيث قال :

تفضل عندنا دكتور حتى نشوفك الهور ! ـ ـ ـ قبلت دعوته السخية شاكرا.

وحينما وصلت المكان في الوقت المحددة وجدت مضيفي قد استحضر لي مشحوفا والدليل معه.

بدأنا رحلتنا الى داخل الهور مع اولى ساعات الصباح المشرق وقد ترائت لي الدنيا وكأنها جنة خضراء يموج بعالم يزخر بالجمال بمختلف الوانه ، حيث الزهيرات المائية بانواعها واشكالها المتعددة منتشرة بسخاء وفي كل الارجاء، كانت مياه الهور المتلألأ تحت اشعة الشمس صافية لحد كانت الاغصان في الاعماق جلية للعيان، كان الطقس رائقا، ونسائم النهار فرحة منعشة، شعرت نفسي سعيدا، ومما زاد في الاجواء بهجة ظهور طيور الماء المغردة ، كانت تحوم اسرابها فوق اقصاب الهور الباسقة، مزينة الفضاء الواسع في طيرانها الحر بخطوط رومانسية جذابة.

وبينما انا في غمرة النشوة والسرور اعلمني دليلي انه اصطاد بصنارته سمكة وقد انهمك بطهيها عبر ادواته داخل المشحوف. ومن حسن الصدف كنا غير بعيدين عن موقع فلاحة في احدى جزر الهور، دنونا منها، كانت الفلاحة تخبز وراء التنور، ناشدت اياها برغيف، كان خبزها حارا ولذيذا جدا، كان عطائها مشكورا. وقد توجت (الطلعة) اخيرا بشرب الجاي العراقي من استكانه المعهود داخل المشحوف ، حقا انها كانت ساعة عمر حلوة مرت مسرعة.

أقول : ان سكان مناطق الاهوار هو في الاصل امتداد لسكان العراق القديم في دولة سومر، اقدم حضارة انسانية على وجه الارض، ان له ماضيا ضاربا في اعماق التاريخ وقد امتلك هذا الشعب فلسفة الزمن والمكان عبر فجر التاريخ معظمه من طبقة الفلاحين، يعيشون نمط اسلافهم القدماء. يعتاشون على الثروة السمكية وتمر النخيل وحليب الجاموس، وقد عرفت جماعات منهم بالمعدان وهم عشائر البو محمد العربية التي نزحت الى وادي الرافدين خلال القرن الرابع عشر، تدفقت من اعماق الجزيرة العربية واستقرت في منطقة هور الحويزة في محافظة العمارة مستفيدة من وفرة المياه في تربية الجواميس التي تزودنا بمنتوجاتها الغذائية الفاخرة .

كما وجد معظم سكان الجنوب من قصب الهور مادة خام لصناعاتهم البدائية، فمن سعف النخيل عملوا الحصران ومن جريدها صنعوا الكرسي واسرة النوم ولوازم بيتية اخرى، بينما اتخذوا من المشحوف وسيلة لنقل بضائعهم المحلية من جزرهم الى الشاطئ. كانت ايامهم متسمة بروح الرضا والارتياح

.

لكن في اعقاب الانتفاضة الشعبانية عام 1991 بدأت جحافل البعث هجومها الغادر على عشرات الالوف من العوائل الفلاحية سكان مناطق الاهوار مستعملة في حربها قنابل الناتالم المحرم دوليا مما تسبب في اختفاء حوالي 50 الف مواطن، بعضهم اقتيدوا الى السجون والبعض الاخر وجد الملاذ في الاراضي السعودية او هرب الى ايران اما البقية الباقية فقد توزعوا على بقية المدن الجنوبية بحثا عن المأوى والغذاء .

وفي غمرة هذا الجحيم، يقدم النظام الجائرعلى تجفيف اهوار العراق وقطع رؤوس ملايين كثيرة من نخيله، حيث كان العراق يملك في سبعينيات القرن 30 مليون نخلة لكن بفعل الاعمال الاجرامية التي مارسها النظام تضائل عدد نخيل الى 17 مليون .

وعلى اثر ذلك سجلت الدراسات المسحية بعد عملية التجفيف الى انقراض 134 نوعا من الطيور من سماء العراق ولم يبقى لها من اثر.

ان تدمير البنى البيئية ادت الى تهجير القسم الاكبر من سكان عرب الاهوار في العراق وتمزيق النسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي وحرمان السكان في التعايش، فقد ادت هذه الاعمال الوحشية الى ابادة عنصر حضاري وارث تاريخي كبير. بدأ بالمجد السومري العظيم وانتهى بعد 5000 عام بنظام بعثي غشيم.

لم ينتوي الشعب المغلوب على امره ان يقوم بالتحدي امام الهجمات الشرسة التي اججت غضب المواطنين جعلتهم يشعرون انهم متشردون في ارضهم، تائهون، يجهلون ما يضمره الغيب لهم من مصير، ومما زاد في قلقهم، خوفهم من المستقبل المجهول، فغدوا متخبطين في عواطف مضطربة ونفوس ثائرة. فكانت معاناتهم الروحية والمادية لا تطاق .وقد تجرعوا مر الحياة صابرين متصبرين.

ان ما تركه نظام صدام من بصمات على الساحة المناخية كانت عواقبها سيئة للغاية، حيث تغيير مناخ الاقليم كله، مما تسبب الى هجرة الطيور الجميلة المغردة من العراق، وهي من اجمل الطيور واندرها في العالم .

طبقا لما جاء في (المركز الامريكي لصيانة الطيور في العالم)

لم تبق الاحوال على حالها بل تغيرت ولله الحمد، فقد واتا الحظ عراقنا العزيزعام 2003 ، حيث تحرر العراقيون من نير النظام وظلمه، فتنفسوا الصعداء، واصبحت قلوبهم تفيض بشرا وتفائلا، هكذا اندفعت جموع الفلاحين نحو الموانع والسدود التي سببت الخراب للعراق فأوقعوا فيها بمعاويلهم البدائية تدميرا واسع النطاق، فتحت مجاري الانهار نحو الاهوار ثانية حاملة معها بركاتها الواسعة، فغمرتها بالخيرات والانعام والثروة السمكية ثانية. بهذه الروحية العالية عادت العوائل الفلاحية المتشتتة الى مناطق سكناها تعيش سطوتها كما كانت في عصورها الغابرة.

كما ان طيورنا المهاجرة عادت الى مساكنها تبحث عن اعشاشها بين اغصان الشجر وفوق اقصاب الهور فانتعشت الحياة في مناطق الاهوار من جديد في العراق الجديد.

يروق لي ان استدرك حقيقة اخلاق ساكني الاهوار فأقول انه قلما تجد اناس على وجه الارض يتحلون بخمائل أخلاق هؤلاء البشر في طيبتهم وفيض كرمهم وصفاء سريرتهم وصدق عاطفتهم، هذا ما لمسته بنفسي.

ومن المفرح جدا ان تقود النهضة الجغرافية هذه الى تشجيع عشاق الطبيعة على الحضور الكثيف في مناطق الاهوار الجميلة، التي اصبحت نقطة جذب للسياحة العالمية.

ظني ان راس النظام، المرتكب لهذه الجرائم البشعة كان لا يعلم ان لممتلكات العراق المتمثلة في هوره ونخيله (حوبة) وانها سوف تلاحقه وتنتقص منه، وهذا ما حدث فعلا. .تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط

admin