مقالات

بناء الدولة الحديثة

الأربعاء – 17 شهر ربيع الأول 1444 هـ – 12 أكتوبر 2022 مـ رقم العدد [16024]

د. ثامر محمود العاني

د. ثامر محمود العاني

مدير إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية – أستاذ الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد سابقاًAA

أدرك قادة السعودية منذ وقت مبكر أن التنمية في الجانب الاجتماعي ستكون مكملة للتنمية في الجانب الاقتصادي لكونه العنصر الأساس الذي تعتمد عليه عملية التنمية والمرتكز الرئيسي الذي يدعم تفوق الدول على المستويين الإقليمي والعالمي، وهذا التمازج الفعال جعل تجربة السعودية التنموية مثالاً يحتذى به في كيفية توفير مستلزمات بناء الدولة الحديثة ودعم الاستقرار والنمو فيها.
إن التحدي الذي واجه عملية التنمية خلال الفترة الماضية، أعطى السعودية المبررات للانتقال لمرحلة جديدة من التنمية تعتمد على نمو إنتاجية المدخلات بدلاً من زيادة حجمها، لذا اعتمدت السعودية استراتيجية قائمة على مرتكزين الأول: تقوم على استيراد أحدث التطورات التكنولوجية العالمية من أجل زيادة إنتاجية رأس المال والعمالة من خلال تشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتوظيف المواهب السعودية بوصفها الوسيلة المثلى لنقل المعارف والعلوم، الثاني: توفير البيئة القانونية والفكرية والحوكمة الرشيدة ورعاية المواهب المكتسبة من أجل خلق مجالات للابتكار والتقدم التكنولوجي.
وجهت السعودية جهودها خلال هذه المرحلة، من أجل تسريع وتيرة التحديث في مجال التقانة من خلال زيادة أنشطة البحث والتطوير لغرض تحسين جودة المنتجات والخدمات وتطويرها، وهدفها من ذلك هو استيعاب المعرفة التقنية التي تتوافق مع ظروف البلدان النامية والتي عادة ما تقدم في شكل خدمات استشارية، والتوجه نحو التصدير كان مبعثه بدرجة أساسية هو التنمية، وتوفير قوة العمل ذات المهارة التقنية الجيدة، ما جعل السعودية تعمل على تطوير ميزتها التنافسية في هذا المجال عبر تركيز جهودها في أنشطة البحث والابتكار والتطوير ورفع مستوى إنتاجيتها لكي تحافظ على مستوى متقدم على الصعيد العالمي.
لذا وضعت خلال هذه المرحلة أقدامها على طريق التحول نحو اقتصاد المعرفة والذي يقوم على حُسن استخدام المعارف الناتجة عن التقدم العلمي خصوصاً في مجالي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بهدف ابتكار وإنتاج سلع وتجهيزات جديدة من جهة، وتطوير وسائل الإنتاج وأدواته وبما يؤدي إلى تحسين نوعية السلع وجودتها، ومن ثم امتلاك القدرة على المنافسة في الأسواق الإقليمية والعالمية، من جهة أخرى، إذ تستند قاعدة الاقتصاد المعرفي إلى عدة مؤشرات هي التحفيز الاقتصادي والنظام المؤسساتي، والتعليم والعلوم، والموارد البشرية وتطور نظم الابتكار والإبداع وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، التعقيد والتنويع الاقتصادي.
وواصلت خلال هذه المرحلة مسيرتها في مجال تعميق اقتصاد المعرفة، إذ اعتمدت سياسات تقضي بالارتقاء بمستوى الإنتاجية اعتماداً على مفهوم الابتكار والجودة، فمسار التنمية خلال هذه المرحلة يستوجب أن يتم التركيز فيه على رفع مستوى الكفاءة الكلية لعوامل الإنتاج وزيادة الإنفاق على البحث والتطوير، وقد أسهم القطاع الخاص مساهمة فاعلة في دعم هذه الأنشطة عبر تمويله، ما انعكس إيجابياً من خلال التطور الكبير الذي شهده إنتاج الصناعات عالية التقنية وصادراتها.
أدركت السعودية منذ وقت مبكر ضرورة إجراء توازن فعال ما بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فإذا كانت الأولى تمثل ضرورة للثانية فإن الثانية مكملة للأولى، لذا أولت قضايا التعليم والإسكان والصحة ورفاهية المجتمع أهمية بالغة وخصصت لها ميزانيات كبيرة نظرا لاعتقادها أن العنصر البشري يمكن أن يشكل عنصراً إنتاجياً كما هي الأرض ورأس المال، فالتنمية البشرية تمثل مجموعة من الآليات والوسائل التي تثير الحافز لدى الفرد لكي يكون منتجاً وهذا سيجعله يملك القدرة على تحقيق أكبر قدر ممكن من الرفاهية والاكتفاء الذاتي في جميع جوانب حياته الشخصية، وهذا الأمر سيخلق لديه المقدرة على المساهمة في بناء مجتمعه ودولته عبر التواصل مع باقي أفراد مجتمعه.
من ناحية أخرى، أسهمت التربية والتعليم في تطوير مستوى الاقتصاد المحلي وتوسيع حجمه وتزويده بوسائل وأدوات إنتاج متطورة، وابتكار سلع جديدة، وتوسيع أسواق العمل وإيجاد فرص جديدة فيه، فالنظام التعليمي إذا ما كان متطوراً فإنه سيسهم في تكوين كفاءات وخبرات تعمل على بناء اقتصاد الدولة، لذا توصلت القيادة السياسية فيها، بعد دراسات مستفيضة إلى ضرورة استغلال رأس المال الحقيقي الذي تملكه السعودية والارتكاز عليه في تنميتها الاقتصادية والاجتماعية، ألا وهو الإنسان، في مرحلة بناء الدولة الحديثة.
لقد حقق مشروع الإسكان والبناء الذي تبنته السعودية فوائد جمة أبرزها، تحقيق العدالة الاجتماعية وتقليل نسب المشاكل الاجتماعية عند حدودها الدنيا، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي الذي ساعد على جذب الاستثمارات الأجنبية إليها، والقضاء على البطالة من خلال توفير فرص عمل كثيرة في مشاريع البناء والإسكان، كما بذلت جهوداً حثيثة من أجل تطوير القطاع الصحي، على غرار ما هو موجود في الدول المتقدمة.
لقد كانت حصيلة هذه الجهود التنموية، بناء دولة حديثة كسبت كل الاحترام والتقدير على مستوى العالم، إذ نجحت باستضافة دورة الألعاب الآسيوية الشتوية لعام 2029 التي ستقام في (تروجينا – نيوم)، إذ تُعد وجهة السياحة الجبلية العالمية في نيوم، وأول مدينة تستضيف الحدث الشتوي في غرب آسيا، بعد أن اقتصرت الاستضافة سابقاً على الصين واليابان وكوريا الجنوبية وكازاخستان.
وفي سبيل بناء الدولة الحديثة، أعلن مجلس إدارة صندوق الاستثمارات العامة السعودية، إطلاق شركة (داون تاون السعودية)، والتي تهدف لإنشاء وتطوير مراكز حضرية ووجهات متعددة ومتنوعة، وستسهم في تطوير البنية التحتية للمدن، وتعزيز الشراكات مع القطاع الخاص والمستثمرين، وذلك عبر تقديم العديد من الفرص الاستثمارية الجديدة في قطاعات الأعمال والتسوق والسياحة والترفيه والإسكان، وستعمل الشركة أيضاً، على إطلاق مشاريعها في 12 مدينة وهي المدينة المنورة، الخُبر، الأحساء، بريدة، نجران، جيزان، حائل، الباحة، عرعر، الطائف، دومة الجندل، وتبوك.
وتنوي الشركة الجديدة العمل على تطوير المشاريع المصممة وفق الطابع الحديث والمُستمد من روح مناطق السعودية وثقافتها، ونسيجها العمراني المحلي. وفي هذا السياق، ويستهدف صندوق الاستثمارات العامة من خلال مشاريع (داون تاون السعودية)، الإسهام في تعزيز الحركة التجارية والاستثمارية في المدن المختلفة حول السعودية، ما يزيد من جاذبيتها، ويعزز الأثر الإيجابي على الاقتصاد المحلي لها، وكذلك توفير فرص جديدة لشركات القطاع الخاص، واستحداث فرص العمل لأبناء هذه المناطق.
ويأتي إطلاق الشركة امتداداً وتأكيداً على جهود السعودية لتطوير هذه المناطق بما ينسجم مع ما تتمتع به كل منطقة من مزايا نسبية وتنافسية، وذلك إيماناً بالدور الفعال الذي تقوم به اقتصاديات المُدن في دعم وتعزيز الاقتصاد الوطني، وتتماشى أهداف الشركة مع جهود صندوق الاستثمارات العامة في تطوير وتمكين القطاعات الواعدة، والمساهمة في تحقيق أهداف الصندوق لتنويع الاقتصاد وزيادة نمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي، بما يتماشى مع مستهدفات (2030)، وبناء الدولة الحديثة.

admin