مقالات

بنغازي بين الاٍرهاب والارهاب المضاد

عبدالله الكبير
بعد شهور قليلة من الهدوء الذي أعقب الإطاحة بالقذافي ونظامه بدأت عجلة العنف في الدوران من جديد، وشهدت مدينة بنغازي مهد الثورة موجة من الاغتيالات استهدفت في البداية شخصيات أمنية في نظام القذافي، ثم توسعت لتطال ضباط وجنود عسكريون وإعلاميين ونشطاء في المجتمع المدني، و فشل المؤتمر الوطني وحكومته آنذاك عن التصدي للظاهرة ومحاصرتها و بدا واضحا عجزه عن إيقافها واستعادة الأمن في المدينة، كل ما فعله هو تخصيص 80 مليون دينار ليبي لدعم الأجهزة الأمنية ثم عزز ب 15 مليونا تاهت في مسارب الفساد ولم يظهر لها أي أثر على تحسين الوضع الأمني المضطرب، سجلت كل عمليات القتل تقريبا ضد مجهولين إذ لم يتم القبض على منفذي أي عملية، بل إن وسائل الإعلام تناقلت أخبارا مزعجة عن إطلاق سراح بعض من ضبطوا وهم يزرعون أشرطة التفجير في السيارات بعد فترة من احتجازهم، كما أن الشاهد الوحيد في قضية إغتيال الناشطة الحقوقية سلوى بوقعيقيص قتل في جهة أمنية في ظروف غامضة! وكانت أصابع الإتهام في قضايا الاغتيالات تشير إلى الفصائل المسلحة الإسلامية.
إزاء استمرار التدهور الأمني أطلق الضابط السابق في الجيش الليبي خليفة حفتر عملية الكرامة العسكرية بهدف معلن وهو طرد كل المجموعات المسلحة في بنغازي واستعادة الأمن، ونالت العملية دعما شعبيا واسعا في كل مدن الشرق الليبي، وتحالفت الفصائل المسلحة على اختلاف أيديولوجياتها وأنتماءتها السياسية في كيان واحد هو مجلس شورى ثوار بنغازي، ويعكس تنزيل مصطلح الشورى في التسمية هيمنة الفصيل الأقوى في التحالف وهو تنظيم أنصار الشريعة.
اندلعت المعارك وامتدت لتشمل أغلب أحياء المدينة ودخلت قوى إقليمية ودولية لتعزيز تحالفاتها وتدفق المال والسلاح على الأطراف المتصارعة وانتقل البرلمان المنتخب إلى مدينة طبرق في أقصى الشرق الليبي وأصبح ظهيرا سياسيا لعملية الكرامة و منح قواتها صفة الجيش الليبي وتمت ترقية خليفة حفتر من لواء إلى فريق وأخيرا منح لقب المشير، واستعرت الحرب من مايو 2014 حتى يوليو 2017 حين أعلن خليفة حفتر عن تحرير المدينة من كافة المجموعات المسلحة وعودة الجيش والشرطة للشروع في بناء دولة المؤسسات والقانون.
ولكن الشهور التالية لإعلان التحرير شهدت المزيد من القتال الضاري مع ما تبقى من أفراد مجلس شورى ثوار بنغازي، كما أن الأمن المستعاد لم يكن سوى سراب إذ استمرت عمليات التفجير والإغتيالات لبعض الشخصيات القبلية والسياسية، كما تفشى الإعدام بإجراءات موجزة وصار من المألوف العثور على جثث القتلى بالعشرات في مكبات القمامة، ورصدت المنظمات الحقوقية المحلية والدولية أغلب الانتهاكات والجرائم التي اقترفتها أطراف الصراع مع الإشارة إلى أن بعض من عثر على جثثهم وعليها آثار تعذيب وحشي كانوا سجناء في سجون عملية الكرامة.
ذروة العنف خلال هذا العام كانت في التفجير المزدوج أواخر يناير أمام مسجد الرضوان والذي سقط على إثره العشرات بين قتيل وجريح، تلاه قيام محمود الورفلي الضابط في القوات الخاصة بإعدام عشرة سجناء أمام نفس المسجد في عملية انتقامية مروعة وجريمة أخرى تضاف لسجل هذا الضابط المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، ولم يجرؤ حفتر على تسليمه للمحكمة معلنا على لسان المتحدث باسمه أنه موقوف ويجري التحقيق معه، ليظهر فيما بعد في عدة مشاهد وهو يواصل القتل بطريقة وحشية تحاكي أعمال تنظيم داعش!
في الواقع لم يعدم الضابط عشرة لا نعرف حتى الآن من هم وما هي جريمتهم، وإنما أجهز بشكل تام على أسطورتين بذلت الأذرع الإعلامية لعملية الكرامة قصارى جهدها لاقناع الليبيين والعالم بهما. الأولي هي أن القوات التي يقودها حفتر هي جيش نظامي منضبط سيشكل القاعدة الأساسية للجيش الليبي في المستقبل، والثانية هي قدرة هذا الجيش على فرض الأمن وتحقيق الاستقرار، إذ لا أحد من الليبيين من خارج معسكر الكرامة مقتنع بأن هذه القوات خاضعة لقانون عسكري وسيطرة وقيادة ومن ثم يمكن أن تكون جيشا وطنيا، كما خاب أمل نشطاء التيار المدني في قرب تأسيس دولة القانون والعدالة، والجيش الذي بنوا عليه آمالهم لينهض بهذا التأسيس اتضح أن بعض فصائله تتبع التيار الديني السلفي في نسخته المدخلية جرى استثمار قدراتها القتالية وعدائها لكل التيارات الإسلامية المخالفة لنهجها، مقابل منحها إدارة الأوقاف بشرق ليبيا والسيطرة على منابر المساجد لنشر منهجهم.
لا يبدو في الأفق القريب أي نهاية متوقعة لهذا الإرهاب والإرهاب المضاد في بنغازي بشكل خاص وليبيا بشكل عام، لأن حالة الإنقسام مستمرة ولم يظهر قادة البلاد في الشرق والغرب إرادة حقيقية لإنقاذ البلاد من دوامة العنف، وفي ظل هذه الظروف المتوترة العنيفة سيكون أي حديث عن إجراء انتخابات هذا العام هو مجرد أمنيات لا يمكن تحقيقها مالم تتغير الظروف بارادة حقيقة من الأطراف المحلية، وعزم إقليمي ودولي يلزم الجميع بتنفيذ التسوية السياسية وتهيئة البلاد لاستحقاق دستوري وانتخابي يحسم صراع الشرعيات ويوقف نهر الدم المتدفق.