غير مصنف

دولة فائض الثروة وما لا يشتريه المال

عزمي عاشور

«ما الذي لا تستطيع أن تشتريه النقود؟»، عنوان كتاب مهم لأستاذ الفلسفة السياسية في جامعة هارفارد مايكل ساندل، الذي حاول، على عكس ما يفعله فلاسفة الاقتصاد، أن يبحث عن مكاسب ومنافع كثيرة لا يمكن نيلها بالأموال.

وإن كان التساؤل موجهاً إلى الأفراد، يمكن إسقاطه أيضاً على مستوى الدول والمجتمعات بمكوناتها الحضارية والتاريخية والموقع الجغرافي والموارد الطبيعة، كالمناخ المعتدل، لتعكس ثروات ضخمة في حال حسُن استغلالها. وظاهرة شراء أي شيء بالفلوس تظهر في العلاقات الدولية وتأخذ أشكالاً مؤسسية تخرج من الحيز الضيق لامتلاك الثروات إلى التأثير في الاقتصاد والسياسة وصناعة الإرهاب والتطرف. فيبرز في منظومة التفاعلات الدولية مَن يغرد خارجها بنهج مختلف عن وحداتها المتمثلة في الدول. فقد خرجت عن هذا التقليد المألوف والمتوارث مع بداية القرن العشرين، كيانات قد تبدو أنها متباينة، إلا أنها متقاربة في النهج والإستراتيجية. نأخذ من بينها مثالين، الأول تنظيم «القاعدة» الذي استطاع بسلوكه الإرهابي أن يغير مسار السياسة الدولية عقب أحداث 11 أيلول (سبتمبر).

وهذا التنظيم يقوم على أفكار راديكالية بخلق أعداء للدين متمثلين في الغرب ومحاربتهم تحت مسمى الجهاد أينما وجدوا، وهو ما لاقى هوى عند الكثير من المتشددين. فالتنظيم منذ نشأته وهو في تطور عنقودي بسبب متغيرات أخرى ساعدت على الانتشار بالانفجار الذي حدث مِن طريق ثورة تكنولوجيا المعلومات والفضائيات التي خلقت النموذج الكاريكاتيري المتمثل في بن لادن وتابعيه، فتولّدت تنظيمات ومبايعات تسير على النهج نفسه في مناطق جغرافية مختلفة.

وهكذا أصبح للتنظيمات الإرهابية ما يشبه الرأسمال الديني أو الجهادي في عقليات كثير من الشباب، متداولة في شكل مطرد حتى الآن. ولا يمكن لوجود مثل هذه الظواهر غير المعتادة، تجاهل ما أحدثته في منظومة التفاعلات الدولية على مدار العقود الماضية، لعل أبرزها هذا التفشي المتوحش للإرهاب وانهيار دول ومجتمعات كأفغانستان والعراق والصومال وليبيا.

المثال الآخر تمثّل في ظاهرة الدول الصغيرة التي تملكها أُسر، فتحاول أن تبحث عن دور في المنظومة الدولية لا يتناسب مع قدراتها الذاتية، كالمساحة وعدد السكان والقوة العسكرية، فتسلك كل ما هو مشروع وغير مشروع في سبيل التغلب على تلك العقدة. وتُجسّد هذه الظاهرة دولة قطر، فعلى رغم افتقادها المقومات الطبيعية للقوة، فإنها امتلكت في المقابل ثروة ضخمة من الغاز جعلتها من أعلى دول العالم في الدخل ومستويات المعيشة. وكان ينبغي استثمار هذه الأموال في شكل جيد، وهو ما انتبهت إليه الأسرة الحاكمة في قطر بإنشائها الصندوق السيادي أو ما يعرف بـ «جهاز قطر للاستثمار» الذي يمتلك أصولاً مالية قيمتها ما يقرب من 335 بليون دولار، ما عظَّم فرصته في الاستثمار في الخارج في مناحي مختلفة ومتباينة. وهذا إن كان أمراً مشروعاً لأي دولة تبحث عن تعظيم منافع اقتصادها، ولكن ما قد يؤخذ على الأموال القطرية أنها، حوّلت تساؤل عالم السياسة مايكل ساندل، ما الذي لا تشتريه الأموال؟ إلى تأكيد أن بالأموال من الممكن أن تشتري أي شيء حتى لو كان ذلك يبدأ من البشر وانتماءاتهم السياسية مروراً بتعاون ودعم الإرهابيين بغية الوجود السياسي والإعلامي، وتاريخ تنظيم «القاعدة» مع قناة «الجزيرة» خير دليل على ذلك، بصرف النظر عما استجد من أدلة حديثة تؤكد هذه العلاقة. ثم احتكار إذاعة مباريات الدوريات الأوروبية والعالمية بدفع أموال ضخمة لا تستطيع شركة أخرى منافسة أن تدفعها. هذا ناهيك عن أن الدولة نفسها مباعة سيادتها بأن أصبحت أرضها مرتعاً لأكبر القواعد العسكرية الأميركية في الخارج.

وإذا كان الرأي العام ظل غافلاً عن هذه الحالة التي توجد عليها دولة قطر، إلا أن هذه السلوكيات الشاذة بدأت أخيراً تلفت نظر الرأي العام العالمي، خصوصاً ما يثار عن علاقة قطر بدعم التنظيمات الإرهابية، وشبهات عن رشاوى قد دفعت لتنظيم كأس العالم في 2022، والزلزال الذي أحدثه انتقال لاعب كرة القدم نيمار من فريق برشلونة أفضل أندية العالم إلى فريق باريس سيرغمان الذي تملكه الأسرة الحاكمة في قطر بدفع أموال غير مسبوقة الدفع في لاعب كرة قدم، وهو ما جعل جماهير كرة القدم في العالم ينتبهون إلى السلوك. فبدأنا نسمع عن المال النظيف في كرة القدم واستخدام الرياضة لتحقيق مآرب سياسية. هذا ناهيك عن الأموال التي تضخ في مراكز أبحاث وصحف عالمية.

فإذا كان تنظيم «القاعدة» استخدم الأيديولوجية ليكون له وجود حتى لو بالإرهاب وغيرها من التصرفات، فإن دولة قطر استخدمت المال وقدراً من الخيال لتتواجد على الساحة ليس في شكل سلمي وإنما في شكل مشاكس، الأمر الذي قاد دول الجوار ليس فقط لتقاطعها وإنما لتفرض الحظر عليها في تصرف ينم على مدى الضرر الذي لحق في هذه الدول من تصرفات طاولت أمنها من هذا السلوك المسخّرة له الأموال في شكل كبير لإحداث الضرر بالغير. وهو ما يطرح التساؤل هل من الممكن أن يصبح هذا السلوك معتاداً ومعترفاً به في منظومة التفاعل الدولي؟ وهل يكون تسيّده بداية هدم الأسس التي قامت عليها التفاعلات الدولية على مدار القرن العشرين بعد أن تمَّ تهذيب تطرف هذه التفاعلات عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية؟

admin