مقالات

طاقات أمل .. نوفمبرية

محمد عبد الصادق

ما أن يهل “نوفمبر” حتى يتبدل كل شيء على أرض السلطنة، فقد غادرنا الصيف أخيرا بحرارته العالية ورطوبته الخانقة التي جثمت على صدورنا، وجعلتنا أسرى التكييف والأماكن المغلقة، وألقى بظلاله على معظم الأنشطة الحياتية، فكل شيء مؤجل إلى نوفمبر. الأسواق تنتعش وحركة التجارة تنشط وتعود الحياة للسياحة الخارجية والداخلية، فتظهر قوافل الحافلات من جديد تحمل السياح من كل بلاد العالم، جاءوا للتمتع بجمال عمان وبالمعالم السياحية الفريدة المنتشرة في كافة أرجاء السلطنة؛ لتنفض عن نفسها غبار شهور الصيف الطويلة.
تدب الحركة في شرايين هذا القطاع الحيوي من جديد معلنة بداية موسم سياحي يحمل الخير لقطاعات واسعة يتصل عملها بالسياحة؛ فتتعافى نسب الإشغال بالفنادق بكافة مستوياتها والتي توفر فرص عمل لمئات المواطنين، وتستفيد المطاعم والمقاهي وكافة وسائل الترفيه، وتنتعش الأسواق الشعبية والمراكز التجارية التي يتبارى معظمها لجذب الزبائن عن طريق التخفيضات والعروض الترويجية؛ أملا في زيادة حركة البيع والشراء واسترضاء الزبائن الذين تزداد شهيتهم للشراء في “نوفمبر”.
الحقيقة منذ وطأت قدماي أرض السلطنة وشهر نوفمبر يحتل مكانة خاصة بالنسبة لي، وأتمتع خلاله بحالة مزاجية عالية، تنعكس على نشاطي ورغبتي في العمل والإقبال على الحياة، مهما كانت الظروف والمصاعب التي لا تخلو منها الحياة، والتي ربما زادت عن معدلاتها الطبيعية في الشهور الماضية، وألقت بظلالها على الحالة النفسية للكثيرين. ولكن عاد “نوفمبر”، فهو وحده كفيل بتبديد الهموم وشحذ العقول، ونشر مشاعر الفرح والابتهاج، التي تبدو جلية على محيا كل من يعيش على أرض السلطنة، أو من يُكتب له أن يزورها في “نوفمبر”.
ربما يكون السر في هذا الطقس الاستثنائي الجميل الذي تنعم به السلطنة هذه الأيام، وربما منظر الزينة التي تكسو شوارع وميادين مسقط وسائر المدن العمانية وحولتها إلى ثريا مضيئة بألوان علم السلطنة التي كست المباني والمعالم الرئيسية، وجعلت الأبيض والأخضر والأحمر شعارا يزين الصدور ويضيء الأفنية والصروح تتوشح به المركبات والشاحنات.
إنها احتفالات العيد الوطني التي يتذكر خلالها العمانيون المسيرة الظافرة التي أطلق شرارتها جلالة السلطان قابوس المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ منذ تسعة وأربعين عاما، وما زالت جذوتها مشتعلة حتى الآن، تنير الدروب وتبعث طاقات الأمل في صدور العمانيين جيلا بعد جيل.
يحتفي العمانيون بعيدهم الوطني في “نوفمبر” بتأكيد مشاعر الوفاء والولاء لقائدهم المفدى ويجددون العهد والميثاق الغليظ بأنهم على الدرب سائرون وعلى المبادئ والنهج الذي رسمه جلالته محافظون.
ما زال ابني ـ رغم مغادرته أرض السلطنة ـ يتذكر المهرجان الطلابي الذي اشترك في فعالياته عندما كان تلميذا صغيرا يدرس بمدارس السلطنة ضمن احتفالات العيد الوطني “النوفمبرية”، وما زال ابني يحتفظ بشعار العيد الوطني الأربعين، وما زالت محفورة في مخيلته تفاصيل هذه الأيام المجيدة رغم مرور السنين.
هذه التفاصيل تروي كيف أن السلطنة بلغت درجة من الرقي في التعامل مع نفسية التلاميذ الصغار، فلم تميز بين طفل عماني وزميله الوافد الجالس بجواره على مقاعد الدراسة، فلم تحرمه من المشاركة في هذه المناسبة الوطنية، بل احتضنت الجميع فانصهروا في كيان واحد على هذه الأرض الطيبة، ويكبر هذا الطفل ويصير رجلا وتظل هذه الذكريات الجميلة محفورة في مخيلته، تاركة أثرا لا يمحى عن عمان وأهلها الطيبين المتحضرين الكرماء، ويظل انتماؤه لأرض السلطنة ممدودا مهما بعدت المسافات ومرت السنون.
أتمنى أن تتحول شهور السنة كلها إلى “نوفمبر”، وأن تظل طاقات الأمل مفتوحة طوال العام، فما أحوجنا للعمل والإنتاج في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها منطقتنا والعالم من حولنا، فلا داعي لتأجيل المؤتمرات والندوات والملتقيات والافتتاحات وتكديسها في شهر نوفمبر من كل عام، لا بد من وضع خطة لتظل الحركة دائمة والنشاط مستمرا معظم شهور السنة.
لا بد من الترويج للسياحة على مدار العام، ونستفيد من التنوع الجغرافي والمناخي لأرض السلطنة، فالطقس معتدل صيفا في ظفار والجبل الأخضر وجبل شمس.
أتمنى أن نرى اليوم الذي تحصل فيه السلطنة على حصتها العادلة من السياحة العالمية، التي تتناسب مع ما تمتلكه من مقومات سياحية طبيعية وبنية أساسية راقية، وشواطئ بكر ساحرة ممتدة لآلاف الكيلومترات، وبيئة بحرية متنوعة.
يجب أن نستثمر الاستقرار السياسي والاجتماعي والسمعة الدولية والإقليمية الممتازة، التي رسخها جلالة السلطان قابوس بفضل سياساته الحكيمة وجهوده الحثيثة طوال العقود الخمسة الماضية في نشر السلام والمحبة والتعاون بين الدول والشعوب، ونبذ الحروب والنزاعات وتجنب الصراعات التي هدمت دولا وشردت شعوبا