مقالات

عن كفاءة مواجهة الصفقة الكبرى

راسم المدهون
ثمة رؤية سياسية واقعية تحاصر الفلسطينيين اليوم وتدفعهم – بقصد أو من دونه – نحو خيار وحيد هو الإستسلام: سيقال إن أوراق الحل كلها بيد الولايات المتحدة الأميركية، وأن موازين القوى العالمية والمحلية ليست قادرة اليوم ولا في المدى القريب على مقاومة هذه الحقيقة أو حتى التخفيف منها. وخلال ذلك كله وبعده سيقال الكثير عن خراب الحالة العربية وارتهانها للهيمنة الأميركية في صورة غير مسبوقة، وهذه أيضا حقيقة لا يمكن انكارها أو القفز عنها، وهي حاضرة في عناوين نشرات الأخبار كما في وعي المواطنين العرب من المحيط الى الخليج.
 
مع ذلك تفترض الحياة خياراً آخراً هو ضد كل تلك المقدمات السوداء مهما تكن واقعيتها وحقيقيتها وأدوات القوة التي تسندها كي تكون خياراً وحيداً أمام الفلسطينيين، وخيار الحياة يعني بالضرورة الجدية: قررت السلطة الفلسطينية تعليق الاعتراف بإسرائيل وفك الإرتباط معها وأول ما تحتاجه قرارات كهذه أن تكون جدية وقاطعة وتتجاوز التهديد اللفظي، بما هو لعب تكتيكي الى أن يكون خيار استراتيجي له بالتأكيد ثمنه الباهظ، الذي لا بد من دفعه كي يمكن الحديث حقاً عن صمود وعن مقاومة ورفض لخيار القهر الذي لا إسم له ولا عنوان الاستسلام.
 
ما نقوله يلامس مصالح الفلسطينيين اليومية وشؤونهم المعيشية، ولكنه في الحقيقة يلامس أكثر مصالح الفئات الاجتماعية المتنفذة، التي راكمت خلال العقود الثلاثة الماضية مكانة اقتصادية ومالية تتكىء على إتفاقات أوسلو وما يرتبط بها من تبعية الاقتصاد الفلسطيني لاقتصاد الاحتلال وهيمنته. يقع قرار الصمود الفلسطيني في قلب هذه المعادلة الصعبة فرفض الاستسلام يعني اليوم إقامة شروط اقتصادية جديدة أساسها محاربة الفساد واعادة النظر في مجمل شبكة العلاقات التي تقوم عليها المؤسسات في السلطة الفلسطينية، التي لا يمكن لأحد المكابرة والزعم أنها يمكن أن تكون أداة من أدوات المقاومة، بقدر ما هي سبب الضعف والتردي. ستكون المرحلة المقبلة عسيرة وشائكة على كل المستويات، وستفرض حالة المواجهة مع سياسات ترامب ومشروعه التصفوي دخول نفق مظلم من العوز، ناهيك عن موجة كبرى من التنكيل بالفلسطينيين باعتبار صمودهم خروجاً عن رغبات رسمية عربية في تجاوز فلسطين وقضيتها.
 
نعم يمكن للفلسطينيين الصمود ومقاومة ما يخطط لهم ولقضيتهم الوطنية، شرط توحدهم خلف برنامج سياسي واضح وواقعي يقوم على مصالح الفئات الشعبية الأوسع التي نعرف جميعاً أنها هي من تتحمل دائماً تكاليف هذا الصمود، وتقف تاريخياً في صفوف المواجهة الأولى من الاحتلال وحلفائه وداعميه، وهي فئات تقبع في أسفل السلم الاجتماعي، وكانت دوماً صاحبة المبادرات الوطنية الكبرى وأهمها: الانتفاضة الأهم أواخر عام 1987 التي كان لها الفضل الأول والأبرز في وجود السلطة الوطنية الفلسطينية. نعني بالتحديد وضوح برنامج المواجهة وتكافؤ اقتسام الألم وتكافؤ إلتزامات الجميع كي يمكن تحقيق نتائج حقيقية.
 
من دون هذا ستظل الساحة الفلسطينية رهينة التجاذبات اللفظية التي لا تعني شيئاً سوى إضاعة الوقت والتلكؤ في دهاليز السياسة الأميركية ذاتها، والفلسطينيون لهم تجارب لا تحصى من انتكاسات كانت توصل كل مرة الى خيبات وفشل يذهب بهم إلى البدايات الأولى.
 
في مواجهة مشروع «الصفقة الكبرى» الذي يروج له الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي لا عنوان لها سوى التصفية النهائية لا مكان للأساليب القديمة- التقليدية وغير العملية، نحن إزاء حالة جديدة تماماً تفترض نهوضاً مختلفاً وله أدواته المختلفة القادرة على الخروج الى أفق سياسي فاعل ومؤثر.