مقالات

في العمق: المواطنة المنتجة قواعد حاكمة للسلوك الأصيل

 
 
د. رجب بن علي العويسي
 
يطرح موضوع المواطنة اليوم نفسه بقوة على الواقع الاجتماعي، في ظل التحولات الحاصلة في السلوك البشري والتباينات التي نتجت عن تعارض المصالح الشخصية للأفراد، وزيادة الطموح الذي قد لا تستوعبه المنظومات الحاكمة، والتغير الحاصل في فكر المواطن وقناعاته، في ظل تزايد العوامل الذاتية والداخلية والخارجية التي باتت تلقي بظلالها على تشكيل شخصيته ووضعه ضمن القالب الاجتماعي الذي سار عليه أسلافه، على أن السلوك العالمي في حد ذاته وتدخلاته في قضايا الشعوب وسياساته الأحادية في فهم الخصوصيات والهويات والسيادة الوطنية، والمفاهيم التي أصبحت تروج لها بعض الأنظمة السياسية والقنوات الإعلامية، أحد المؤثرات التي باتت تفرض واقعا جديدا على وعي الشعوب بمتطلبات المواطنة.
كما لم تعد النظرة إلى المواطنة اليوم بعيدا عن الهوية ومنظومة الحقوق والواجبات والمسؤوليات، بل ارتبطت بها أيما ارتباط، وهو أمر صحي يقود إلى بنية مؤسسية وتنظيمية تؤسس لمواطنة المجتمعات في ظل إرادة شخصية يتجلى الوطن في كل تفاصيلها ويؤسس منطلقات تفوقها، ويبرز محددات نجاحها، كسلوك أصيل في ظل ثوب الإخلاص والولاء والانتماء والمسؤولية، غير أن التحدي القائم هو أن يكون فهم المواطنة مرتبطا باكتمال تحقق هذه الحقوق مهما كانت الظروف، فيبقى الوطن محل مساومة، وتصبح المواطنة شماعة للخروج عن المألوف من الطباع والأخلاق أو المرغوب من العادات والسلوكيات، ومبررا للخوض في قضايا خارجة عن إطار النص أو تغرد خارج السرب، فتصبح مسألة المواطنة معرضة للاجتهاد وعرضة للأخذ والرد والشد والجذب، فتتجه إلى الوقتية والمصلحة الشخصية، ولغة فرز العضلات وشطحات الألسنة، حتى أصبحت لدى البعض فرصة مواتية، يحكم من خلالها على نجاح أو فشل مشروعات التنمية ويحاكم عليها تصرفات وسلوكيات المواطنين الآخرين، بما يفسر حالة اللبس في طريقة التعبير عن المفهوم، والصورة السلبية القاتمة التي تتعاطى مع المواطنة، حتى أصبحت تعبيرات يفتقد للروح، وكلمات تفتقر للحياة، وعبارات تردد من قبل المتسلقين على الوطن بحجج الإصلاح ومقارعة الفساد وغيرها من المسميات التي باتت تمارس باسم الوطن وتنفذ أجندتها باسم الحقوق والحريات.
ومع كل هذه التباينات الحاصلة في فهم المواطنة، وحالة اللغط وتعدد التفسيرات وازدواجية المعايير في تقديم المفهوم للمواطن بطريقة منهجية واضحة تحاكي الواقع وتجد فيه مساحاته الواسعة للانطلاقة والنهوض في أفق الوطن الواسع تنتج وتعطي وتبادر، كان البحث في إنتاجية المواطنة الطريق الصحيح لحسم هذا التباين وتقنين مسار الاختلاف، فالعبرة بالخواتيم والعمل بالنتائج، والنتائج عالية الجودة بلا شك؛ إنما هي نتاج ممارسات رصينة وسلوكيات حاذقة ومنهجيات التزمت الدقة في التخطيط والتنظيم وإدارة العمليات الأخرى في الممارسة اليومية للمواطن، عبر التوجه نحو تأصيل سلوك المواطنة، وإحداث تحول نوعي في طريقة تقديم السلوك، وتقديم مبادرات أكثر جدية في نقل المواطنة من المنظور الفكري المجرد إلى كونها ممارسة عملية ومسارات تطبيقية ومحاكاة للواقع تبرز في كل تفاصيل حياة المواطن وتقاسيم معطيات العمل اليومية، فالتطبيق هو البيان العملي لأنشطة المواطنة وفلسفة عملها والبوصلة التي توجه مسارها ويحتكم إليها في إنتاجية المواطنة، وهي تعبير عن استشعار المواطن لعظمة الوطن وكرامة إنسانه وقيمة موارده وثرواته فيعمل جاهدا على الوفاء بالتزاماته نحوها وتعهداتها بشأنها، لتنطبع على سلوكه التزاما يمشي على الأرض، في ظل ممارسة حقيقية وسلوك أصيل ومنهج عملي يوافق الفرد في كل حركاته وسكناته، في مهنته وأداء مهامه الوظيفية، في علاقته الاجتماعية والشخصية، وتنظيمه لشؤونه الخاصة وقدرته على منح ذاته قدرة أكبر على التخطيط والتنظيم والتمكين والإدارة والقيادة، وقدرته على التعاطي الواعي مع الفرص المتاحة والإشكاليات والتحديات الماثلة، وحكمة الردود الناتجة من التفاعلات الحاصلة في حواراته ونقاشاته مع العالم الافتراضي ومنصات التواصل الاجتماعي.
إن إنتاجية المواطنة، موجهات حاكمة لقواعد السلوك، تضع المواطن أمام صورة مكبرة للواقع، تستدعي منه المزيد من العمل الجاد الذي لا ينتظر من يحدد له المسار، أو يمهد له الطريق، أو يسوّي له الأرض، بل عليه أن يقرأ الواقع بنفسه، ويشخصه في ظل استيعابه للأهداف العليا والسياسات العامة للدولة، ويؤسّس فيها منهجياته واتجاهاته، ويصنع من خلالها معايير أداء للسلوك القادم، بحيث يكون سندا لنفسه وأبناء مجتمعه، وإطار عمل يترجمه في مواقفه الحياتية كمسؤول وموظف وأب وأم وطالب ومربٍّ وغيرهم، بالشكل الذي ينعكس إيجابا على مسارات الإنجاز المتحققة، فتصبح نتائجها تعبيرا عن صدق النفس وصفاء المنهج وإخلاص النية وسمو الهدف عبر تأصيل العمل التطوعي، واختصار الإجراءات واحتواء القدرات وصناعة القدوات، بما يؤسس لمرحلة جديدة يتم فيها نقل المواطن من مرحلة الاستماع للتعليميات والتوجيهات، والإصغاء للنصائح أو الكلمات والعبارات والخطب الحماسية حول الوطن؛ إلى مرحلة الاستمتاع بها وإعادة إنتاج المواطنة في فكره وقناعاته وأساليب عمله وحواراته واطروحاته وتوصياته ومقترحاته باعتبارها مشتركا جمعيا ورابطة وطنية روحية، فيعمل على إنتاج المواطنة وفق الضوابط والتشريعات العامة التي تحدد معايير النجاح، وإعادة صياغة المفهوم بطريقة تؤكد على الاستدامة والتنوع في المعطيات، وطرحها كمشروح حضاري إنساني يتبناه المواطن بمحض اختياره ورغبته ووفق احتياجه. فلا قيمة لشعارات وهتافات صاخبة، إن لم يصادفها العمل أو يبرزها الأداء أو يؤسّسها الخُلُق أو تصونها عقيدة الوطن، كما لا قيمة لمواطنة في ظل أنانية مسؤول، وقسوة أسلوب موظف، واحتكار تاجر للموارد، وتضييع مهندس أو استشاري للثروات في مناقصات غير ذي أهمية، أو تعمد المسؤول في إخفاء مسار العمل في المشروعات عن المواطن، أو محاولة إرهاق كاهله بفرض غرامات متكررة، أو ضعف في تقديم الخدمة وعدم التزامها معايير الجودة والدقة والسرعة والكفاءة، أو عدم تقديمها بطريقة تتسم بالذوق والتقدير والاحترام وإدارة المشاعر، فمسألة التجديد في روح المواطنة وتعميق حضورها في إدارة معطيات الممارسة اليومية لا تكفي؛ إلا إذا ارتبطت بنتاج واضح وانعكست على حياة المجتمع والمواطن في مهنية التطبيق وتيسير الإجراءات واختصارها، وتمكين المعايير الضبطية والعدلية من النفاذ الفاعل لها في حياة المواطنين جميعا بنص القانون، وقدرة المواطنة على الغوص في سلوكيات الإنسان وقناعاته واتساع رقعة التأثير فيها واحتواء إنتاجه.
إن بناء منظور المواطنة المنتجة يستدعي اعتمادها على جملة من الموجهات، فبالإضافة إلى التقنين والتشخيص الدقيق للمفاهيم والتجديد فيها بشكل يتوافق مع لغة المرحلة وخطاب الشباب، ويستوعب ثقافتهم والنمط الخطابي السائد لديهم في التعبير عن المواطنة ونقلها من حيز الإعجاب إلى أصالة الممارسة واستدامة الفعل وحس الشعور الذاتي بها، تأتي أهمية دور المؤسسات وقدرتها على نقل محور التطوير والتجديد في سبيل بناء سلوك المواطنة، وإلى أي مدى تسهم جهود المؤسسات في تنفيذ اختصاصاتها ومهام عملها وخططها وبرامجها في التقليل من الإجراءات الروتينية والتسهيل على المواطن، وإدارة العمليات التنظيمية والإدارية بكفاءة عالية تؤسس لمواطنة المواطن، بحيث يشعر بأن له حق الاختيار والمشاركة والنقد والرد، كما تستجيب لتطلعاته، وتؤمن باختياراته، وتؤمّن له مساحات الأمان في التعاطي مع أي قصور في استيفاء هذه الحقوق. لذلك يجب أن تخضع عمليات تقييم نجاحات المواطنة لمعايير الوطن وقيم المجتمع ومبادئه وتؤطر في إطار يمنح الخصوصية الوطنية والثقافة المجتمعية والعادات والتقاليد والقيم المجتمعية دورا مهما في التعبير عن قيمها، والتنوع في الرصيد الذي يضيف لإنتاجيتها بعد النوعية والمنافسة، ويدخل في الإطار نفسه المساحة التي تمنح لترقية النماذج الوطنية وتستوعب أخلاقيات المواطن وقيمه ومبادئه، فهي بذلك مواطنة ليست من طرف واحد بل مسارات من التوازن والتناغم والتكامل ومحطات تؤمن بالضبطية والالتزام والوقوف عند التشريعات واللوائح تحمل رؤى الوطن وتترجم مبادئه بأحرف من نور. وبالتالي ما تستدعيه إنتاجية المواطنة من توفير منصات للتقييم واستقراء الوعي حول استيفاء المواطن لحقوق المواطنة، بحسب موقعه في السلم الاجتماعي والوظيفي وقدرته على التعاطي الواعي مع متطلبات المواطنة.
وعليه، فإن المواطنة المنتجة قواعد عمل نابعة من ذات المواطن نفسه، والتزام يسري في أوردته وشرايينه وينعكس على سلوكه وممارساته، وينطبع على عفويته وأخلاقه، ويصنع في شخصيته سلوك المواطن الواعي بمسؤولياته، الثابت في مبادئه، الأصيل في قراراته، السمح في معاشرته، والودود في طباعه، القارئ لفلسفات التطوير واستراتيجيات العمل الوطني ومحطات التحول الحاصلة فيه، فيبدأ بالتغيير من نفسه، ويتعرف بأخطائه، ويتداركها بالرجوع إلى هدي التشريع وحكم القانون، ويلتزم تطبيق المعايير على نفسه كما يرجوه على الآخرين، فيتنزه عن كل المسارات التي تسيء إلى غيره أو تسهم في التضييق على أبناء مجتمعه، ليظل عمله موجها للصالح العام، محكوما بإطار عمل ألزم نفسه به، وتعهد بأن يكون عونا لنفسه على بلوغ الأهداف. إن المواطنة المنتجة تؤسس لمرحلة أكبر في تعزيز قيمة المسؤولية القائمة على توفير الحوافز مع الرقابة والمتابعة والمحاسبة على التنفيذ، والتي يرافق عملها دافع الإيجابية والتفاؤلية والثقة في المواطن المكافح والمخلص والمنتج، واحترام ملكاته الفكرية، واستيعاب طاقاته الإنتاجية، والنهوض بها بالشكل الذي يضمن منه استدامة في الأداء، وقوة في الإنجاز، وأصالة في قواعد السلوك.