مقالات

في العمق : في ثوابت القيم ومتغيراتها، أين تقف الهوية الوطنية؟

 
 
القيم مشترك جامع بين مختلف الأمم والحضارات الإنسانية الواعية، كونها رابطة حضارية، ومشتركا إنسانيا، يعبر عن خصوصية الشعوب، وما تتميز به عن غيرها، وتتقاسم خلاله فرص التناغم والتكامل، والمسؤولية نحو نهضة مجتمعاتها وتقدمها وتطورها، مع اختلافها في الطريقة والأسلوب، والأدوات والآليات، ومنطلقاتها الدينية والعقائدية والفكرية، في المحافظة على قيمها الإيجابية؛ ومع دخول المدنية والتطور في المجتمعات الإنسانية المعاصرة، دخلت القيم في حالة من التذبذب في قوة الالتزام بها، ومع ذلك ظلت الكثير من الشعوب ـ خاصة الآسيوية منها ـ رغم التطور الحضاري الحاصل بها، وتدخُّل العولمة في صياغة عاداتها وأطرها الثقافية والاجتماعية، محافظة على موروثها القيمي، وأوجدت للموروث القيمي لديها مساحات أكبر للنمو والتطور، بل استطاعت أن تؤسس لها موقعها في اهتمامات شعوبها، واستمرارية ممارسته لطقوسه وعاداته وتعبيراته الدينية والثقافية والاجتماعية، التي شكلت في المقابل هويته التي يتمز بها عن غيره؛ وأوجدت لها حضورا قويا أهّلها لاستحقاقات النجاح في خريطة التنمية الاقتصادية العالمية، والاستفادة من التجارب الغربية التي برزت منها نزغات العولمة وانطلقت منها سياساتها الاستبدادية الفكرية، دون الخشية من ضياع هويتها الثقافية؛ في حين أنه على الرغم من تعدد المقومات الحضارية والثقافية والدينية والتأريخ والمبدأ والجغرافيا واللغة، التي تتميز بها منظومتنا العربية، والتي تفترض المعادلة امتلاكها إرادة أكبر في المحافظة على هذه القيم وتجذرها وتأصلها في سلوك الإنسان، كون هذه المقومات سياجا يمنعها من التصدع، ويقيها من العثرة، ويبعدها عن مخاطر الزلل، ويوجّهها لمسارات أكثر تقنينا ووضوحا؛ يضعنا أمام مراجعة لآلية تعاملنا مع القيم، وكيفية قراءتنا لها، والمساحة التي أوجدناها لها في التشريعات وأنظمة الحياة والعمل، وآليات التقييم وموجهات التطوير، في ظل قناعتنا بأن القيم بما تمثله من وزن في مسارات بناء الإنسان، قادرة على إعادة توجيهه وضمان تطويره بما يحفظ له كيانه ويبني له أعمدة الأمان.
إنّ مجتمع السلطنة يعيش خصوصية ثقافية واجتماعية وفكرية، لها أطرها وخصائصها وسماتها التي يتميز بها عن غيره من مجتمعات الأرض، وهي خصوصية نابعة من الموقع الجغرافي وتنوع التضاريس بين السهل والجبل والساحل، والتي فرضت واقعا متجددا وسلوكا متناغما مع طبيعة هذا الواقع، بما انعكس على سلوك الإنسان العماني ذاته وما اتسم به من سماحة وتسامح وألفة وتآلف، وحب الآخرين، والتعايش معهم، ولين الجانب وعمق التواصل، والاتزان الفكري، والاعتدال المذهبي، والروح الراقية، في طيب المعشر وحسن الصحبة، وثقافة التعاون، وحس الأخوة، فكانت قيمة مضافة لبناء مسارات التطور وموجهات التحول التي يعيشها، على أن التخوف الحاصل من نفوق القيم وضياع الهوية في الجوانب التي تحمل سمة الخصوصية التي يتميز ويفتخر بها الإنسان العماني، ناتج عن أن هناك بعض السلوكيات والعادات والممارسات التي دخلت واقع حياة المجتمع، وأصبحت جزءا من التعامل اليومي، وأثرت في أساليب الخطاب والذوق والتعايش والعلاقات التواصلية، وأوجدت حالة من التنافر والتجافي مع القيم والعادات التي يؤمن بها الأجداد والجيل السابق، أو ينظر إليها على أنها حالة عرضية ومن مشوهات القيم والخصوصية العمانية، لذلك كان الواجب تفنيدها وتوضيح الصورة النمطية المترتبة عليها، والسلوك البديل الذي يمكن أن يقدم، بما يتوافق مع فكر الأجيال وعقليتهم المعاصرة، ونظرتهم للأمور وتقييمهم لها، وتعاطيهم مع التراث، فمع أنها ليست من خصوصية المجتمع؛ إلا أن التعامل معها أصبح واقعا يفرض وجوده في منظومة الخطاب والتعايش، بما يستدعيه من وقفة تأملية في كثير من العادات والتقاليد التي اكتسبها وتجد عدم القبول من مجتمع الكبار، وبالتالي تعميق وترسيخ مفاهيم الإيجابية والقيم الفاضلة، وترسيخ القيم الحضارية التي تؤكد عليها مختلف الحضارات الإنسانية الراقية، القائمة على الحوار والعلاقات الإنسانية الواعية، وقيم التعايش والسلام والمحبة والإخاء، وبث روح التجديد والحياة فيها ومراقبتها ورصدها وتنقيتها، وإعادة إنتاجها بالطريقة التي تتواءم مع الواقع المعاصر وتستجيب لمتطلباته وتستوعب غاياته، ويضعها على مساحات متقاربة مع فكر الأجيال الناشئة وثقافتها المتغيرة.
وهنا يأتي دور المؤسسات التعليمية والأسرة والإعلام والمواطن نفسه، في نشر الوعي القيمي بين أبناء المجتمع حول منظور هذه القيم والثابت منها والمتغير، وما يدخله التجديد والتطوير من غيره، وتوضيح الصورة للأجيال بأن التجديد في القيم لا يعني تحييدها عن أصولها أو تحويرها عن هدفها، بل تطويع هذه القيم لنفس الغرض والهدف، عبر تنوع الأدوات والأساليب والمواقف، وإضافة صفة الشمولية والاتساع والتكامل والمصداقية والعمق فيها، بالشكل الذي لا يؤثر على جمالياتها أو ينقصها قدرتها، أو يُبعدها عن هدفها، أو يُذهب القوة والسيادة والتأثير منها، بل بإبرازها بطريقة تتعمق في ذات الأجيال، وتتناغم مع مساحات التحول التي تنشدها، مستفيدة من التقنية والفضاءات المفتوحة التي تحلق بالقيم في عالم الإنسان المفتوح الواقي والافتراضي، وذلك من خلال تعزيز فرص الرصد لمواطن التميز والقوة والصدارة في القيم، والهوية التي شكلت خصوصية المجتمع العماني، وتكثيف جهود المؤسسات التعليمية والبحثية والإعلامية، بتقديم الدراسات التشخصية ورسم المناهج والخطط العملية، وبناء المسارات المهنية، وتأسيس المراكز العلمية، وإيجاد موجهات تدريبية وبرامج تطويرية، وصناعة القدوات، وترسيخ المفاهيم والمصطلحات الداعمة لمنظومة القيم وآلية تفعيلها، بالشكل الذي يعزز من فرص تطبيقها، ويؤسس لشراكات ومساحات التقاء مجتمعية تنطلق من معين القيم وترتكز عليها أنشطتها، لتكون قيما حية في نفوس أبناء الوطن يفخرون ويتفاخرون بها.
د. رجب بن علي العويسي