مقالات

لماذا العرب محلك سر؟

حسن حنفي

تتحرك تركيا شرقا، وإيران غربا، وتُحاصر مصر. فأين العرب؟ وهل هم على وضع «محلك سر»؟ ولماذا يقبلون بهذا الحصار لهم من جميع الاتجاهات ولا يتحركون؟ هم محاصرون شمالا من روسيا، وغربا من أوروبا، وشرقا من إيران، وجنوبا من أفريقيا. والسهم موجه إلى القلب فى زرع إسرائيل. فظلوا ينزفون. ومازال شعراؤهم يبكون على أطلال فلسطين.

كانت الدولة العثمانية حامية لهم من أطماع الشرق والغرب. ولما هزمت مع ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى أسقطها مصطفى كمال كلية بإسقاط الخلافة فى 1923. وسقطت المظلة الحامية والخيمة التى يأوون تحتها. ودخلوا فى عصر سيطرة ثانية فرنسية بريطانية بعد تقسيم تركة الرجل المريض. ونشأت الدول الوطنية بحدود مصطنعة بينها طبقا لاتفاقية «سايكس بيكو». وبالرغم من حركة التحرر الوطنى، ونجاح العرب فى طرد المستعمر الأجنبى إلا أن استبداد الدولة الوطنية وسريان الفساد والعنف فيها جعلها تنهزم أمام إسرائيل فى 1948 ثم فى 1967. ولم تستطع حرب 1973 إلا تحرير سيناء ومنزوعة السلاح، وانسحاب إسرائيل من طابا بعد اللجوء إلى محكمة العدل الدولية.

والآن تتفتت الدولة الوطنية التى كانت البديل عن الدولة العثمانية مجزأة. تأكلها من الداخل الحركة الإسلامية وأحلامها فى عودة الخلافة، وتوحيد الأمة تحت «الحاكمية لله»، وتطبيق الشريعة الإسلامية. واستعملت القوة جهادا فى سبيل الله. فنشأت الحركات المتطرفة منها مثل داعش والقاعدة. فسالت دماء العرب بأيديهم. وقتلوا من أنفسهم أكثر مما قتل عدوهم الأول، إسرائيل. وأصبحت قضية النظم السياسية محاربة الإخوان ثم تعميم ذلك على الكل باسم مقاومة الإرهاب. ويجتمع العالم كله شرقا وغربا على مجابهة عدوان الإرهاب.

أعطت النظم السياسية العربية الأولوية لها على أوطانها ودولها وشعوبها. فضحت بالشعوب فى سبيل النظام السياسى كما يحدث الآن فى سوريا. وضحت بوحدة الأوطان كما هو الحال فى ليبيا واليمن. وضحت بالمواطنة فى العراق ولبنان فى سبيل الطائفية والعرقية. وأعطت الأولوية للأيديولوجيا الطائفية والعرقية والقبلية على الدولة الوطنية، والأولوية للهوية الطائفية والعرقية على الوطن والمواطنة. وبعد التموجات فى ثورات الربيع العربية الشعبية، أُحبطت الشعوب واتجهت إلى البحث عن الخبز، لقمة العيش، بعد غلاء الأسعار وخفض قيمة العملة المحلية. واضطر العرب إلى مغادرة أوطانهم حتى أصبحت نسبة المهجرين العرب أكبر نسبة فى العالم. يستجدون الإقامة والإعاشة والاستيطان. وإسرائيل تستوطن أرضهم. والحكام راضون باستبدادهم. فلتحرق الشعوب رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا بالنابلم والغازات السامة مادامت العروش قائمة.

لم يعد عند العرب ولاء لأوطانهم، ولا ولاء لتاريخهم، ولا محافظة على هويتهم، ولا اعتزازاً بذاتيتهم. أصبحت أوطانهم طاردة لهم لاستحالة العيش فيها بسبب الفقر أو خوفا من الاعتقال. يهاجرون إلى الخارج لرزق أكبر، وحرية أوسع. فى حين أن إسرائيل وطن جاذب ليهود العالم بصرف النظر عن جنسياتهم ولغاتهم وثقافتهم. تجمعهم اللغة العبرية، وتوحدهم الثقافة اليهودية والتاريخ المشترك. العرب إلى الخارج، واليهود إلى الداخل، تفريغ الأوطان من شعوبها وإحلالها بشعب آخر.

فإذا تحرك العرب وهم محاصرون فيما تبقى من أوطانهم فإنهم يسيرون «محلك سر»، أى يتحركون فى المكان. فتهشمهم الحروب الأهلية، الطائفية، سنة وشيعة أو عرقية، عرب وأكراد أو قبلية وعشائرية، بنو فلان وأولاد فلان. أصبحت العروبة فى المظهر. بل اختفى اللسان العربى من بعضها، والعروبة هى اللسان. وأصبحت الهوية الأعمق هى التشيع أو السنة أو الكردية أو الأمازيغية. تفتت العرب ولم تعد هناك قضية تجمعهم ولا حتى فلسطين كما كان فى الماضى بعد أن عقد البعض معاهدات سلام معها علنا أو سرا. فرقهم الرزق. فمنهم الفقراء والأغنياء. الفقراء يزدادون فقرا، والأغنياء يزدادون غنى. فلم يعد همّ الأغنياء إلا جمع المال، والتمتع بالحياة الحلوة فى المعيشة والاستهلاك، وتحويل قراهم إلى مدن أمريكية مثل نيويورك وسان فرانسيسكو، والانتقال من عصر الخيام إلى عصر ناطحات السحاب، ومن القرى إلى مانهاتن أخرى. وظنوا أنهم بهذه المظاهر يدخلون إلى عصر الحداثة ومازالت العقول والثقافات لم تتغير، خاصة بالنسبة للحريات العامة، ووضع المرأة، وحق الاجتهاد. غلبت عليهم ثقافة «الثابت» دون «المتحول» بتعبير أدونيس. خافوا من الحركة. واطمأنوا إلى السكون. وأرادوا السلام الكاذب دون رغبة فى المخاطرة حتى لو كانت محسوبة. يستفيدون من حركة غيرهم الأوروبيين والأمريكيين، ولكنهم أنفسهم ثابتون لا يتحركون. العالم حولهم يتغير فى آسيا وأوروبا وهم ثابتون ثبوت أوتاد الخيام. مع أن هذه الخيام تقلعها الرياح القوية. فلا شىء يقف أمام ريح التغيير. لذلك طالت سيادة الأشعرية عشرة قرون. وتحولت إلى أشد منها فى الخطاب السلفى. وانتشار موجة التكفير والحكم بالردة والخروج على إجماع الأمة كلما حاول أحد هز الثقافة السلفية الثابتة القديمة وكأنها ثقافة كل العصور.

هكذا وصف ابن خلدون العرب بأن انتقالهم من البدو إلى الحضر انتقال زائف سرعان ما ينهار الحضر فيعود العرب إلى مرحلة البدو ليستأنفوا دورة حضارية جديدة.

ربما هذا وصف تشاؤمى للعرب لما نراه الآن فى اقتتالهم فيما بينهم صراعا على السلطة، ولأسباب طائفية وعرقية وقبلية فى الظاهر. فالعربى أيضا الشاعر صاحب المعلقات السبع. وهو الذى عقد حلف الفضول، نصرة المظلوم على الظالم، وقد قال عنه الرسول إنه لو كان حاضرا لكان أحد موقعيه. وهو صاحب الفتوحات العظيمة لنشر الإسلام وتحرير الشعوب من حكم الفرس والروم. وهو الذى أقام إمبراطورية ترث إمبراطوريتى الفرس والروم فى أقل من مائة عام وممتدة شرقا إلى أواسط آسيا وغربا إلى الأندلس. طائر يفرش جناحيه. ومازال القلب نابضا. وهو صاحب الحضارة فى العلوم والفنون، فى العلوم الطبيعية والرياضية والعلوم الإنسانية، الفلسفة والتصوف، والعلوم التاريخية والجغرافية. وفى الفنون، العمارة والموسيقى والزخرفة. وكما قال ابن خلدون أيضا لا يصلح العرب إلا بنبوة أو ولاية، أى لابد من الزعيم القائد، إذ استقبل العرب آخر مرحلة من مراحل الوحى بعد أن كان قاصرا على بنى إسرائيل، ثم انتهت الدورة الحضارية الأولى التى أرخ لها ابن خلدون، وأتت مرحلة الشروح والملخصات وتدوين الموسوعات فى القرون السبعة التالية، وقد بدأت منذ مائتى عام بوادر الدورة الحضارية الثانية من حسن العطار والطهطاوى والأفغانى وبدأت تنتشر مفاهيم النهضة والإصلاح والثورة والربيع العربى. وظهرت المشاريع العربية كما ظهرت المذاهب الفلسفية الأدبية: «الثابت والمتحول» لأدونيس لدراسة أصول الاتباع والإبداع، و«تحديث العقل العربى» لحسن صعب، و«نقد العقل العربى» للجابرى، و«نقد العقل الإسلامى» لمحمد أركون، و«الشخصانية الإسلامية» لمحمد عزيز لحبابى، و«من التراث إلى الثورة» للطيب تيزينى، و«التراث والتجديد» لحسن حنفى، مما يدل على أن دورة حضارية ثانية قادمة، تبدأ هذه المرة بالمفكرين الأحرار وليس بالضباط الأحرار.